محمد ناجي أحمد


باذيب وقوى خمر:
حين نشر باذيب في صحيفة (الأمل) العدد 1،6 يونيو 1965م، مقالاً بعنوان (معالم على طريق خمر)، لم يكن على اطلاع وفهم لمؤتمر خمر ومقرراته، ولذلك كتب عنه قائلاً: (وكان المؤتمر تجسيداً رائعاً لإرادة الشعب اليمني، واختياره الجمهوري، ورغبته في أن يسود السلام على أراضيه من أجل أن يتفرغ لبناء بلاده وتصفية بقايا العصور الوسطى) [كتابات مختارة، ج2، ص112]. لكنه حين اتضح له أن هذه القوى هي بقايا العصور الوسطى، من أشباه الإقطاع والملاك، نحت كتاباته باتجاه كشفها ونقدها، فمن ذلك المؤتمر وقراراته كان مؤتمر الطائف، والتآمر على إسقاط اسم الجمهورية، واتخاذ اسم (الدولة الإسلامية) بدلاً عنه، وإحلال السعودية والاستعمار بدلاً عن جيش مصر!
ففي مقاله (طريقان للتطور في الجمهورية اليمنية) المنشور بصحيفة (الأمل) العدد 2، 12 يونيو 1965م، يحدد باذيب القوى المضادة للثورة بـ(ممثلي الملاك الكبار للأرض وأشباه الإقطاعيين من مشائخ قبائل ورجال دولة سابقين، الذين التحقوا بحكومة الثورة، قد عملوا بمثابة لجام للدفع الثوري، وساعدهم في ذلك عدم وجود رؤية زراعية واقتصادية عميقة عند الآخرين). ويأتي في سياق موقفه هذا نقده لكتاب (نكسة الثورة في اليمن) الذي نشره عبد الملك الطيب أحد أهم أعمدة التنظير للمؤتمرين في خمر، والذي نشر كتابه باسم مستعار (عبد الإله عبدالله)، فكتب باذيب حينها مقالاً بعنوان (الثورة لم تنتكس)، معتبراً كتاب (نكسة الثورة في اليمن) بأنه (يقدم ذخيرة خصبة لأعداء الثورة)، وقد اعتمدت عليه نشرات الملكيين، واقتبست منه العديد من المقتطفات. ثم تناول باذيب قوى خمر بمقال آخر بعنوان (الثورة اليمنية والمشائخ) نشر في صحيفة (الأمل) العدد 9، 11 أغسطس 1965م، محللاً طبيعة هذه القوى المعيقة للثورة، ومؤكداً (أن خطأ الثورة أنها لم تغير العلاقات الإقطاعية والعشائرية، التي يستمد منها المشائخ نفوذهم وقوتهم) [كتابات مختارة، ج2،ص128-129].
قدم باذيب رؤيته وتصوره للإصلاح الزراعي في الجمهورية، باعتباره هو الحل لقضية الأرض، وتغيير العلاقات الإقطاعية والعشائرية، وقد نشرها في أواخر 1963م بمقالات مسلسلة على صحيفة (الأيام) ثم أعاد نشرها في صحيفة (الأمل) في أغسطس وسبتمبر 1965م.
أعلن الرئيس عبد الله السلال في 18 يوليو 1965م، وثيقة العمل الوطني، التي تضمنت رفض مقررات مؤتمر خمر الاستسلامي، الذي يرتمي في أحضان السعودية. وشددت الوثيقة على إصلاح الحكم من خلال (حكم ديمقراطي)، والحيلولة دون تحويل (الثورة إلى امتياز طبقي)، والعمل على تحرير الشعب (من كل ما يعوقه عن ممارسة حقوقه الوطنية وحرياته الديمقراطية)، وأكد على ضرورة (بناء جيش وطني قوي) قادر على مواصلة النضال ضد الرجعية والاستعمار، وضرورة بناء تنظيم شعبي للحفاظ على المد القومي من خلال جبهة وطنية، منخرط فيها كل القوى الوطنية الثورية. ونبهت الوثيقة إلى أن الرخاء والعدالة الاجتماعية تتحقق بالكفاية الإنتاجية، ورفع مستوى معيشة الناس، وتخفيف الضرائب على غالبية الشعب، ورفع التنافيذ، وتغيير أسلوب جباية الضرائب والواجبات، ومحو كل ملامح النظام الإقطاعي. فالعلاقات الاجتماعية الجديدة ذات الطابع الوطني هي الكفيلة بإذابة (الرواسب القبلية والطائفية والعنصرية، لتحل محلها مشاعر الأخوة والعمل المشترك والوجدان الوطني الموحد كأس لازم لوحدة وطنية متينة)، والعمل العربي المشترك، وتشكيل حكومة وطنية تسير في الاتجاه الثوري العربي، وأشارت الوثيقة إلى ضرورة (وضع منهاج عمل ثوري يحدد مشكلة اليمن، ويضع الحلول النهائية لها). من الواضح أن تأثير باذيب على الوثيقة يصل إلى درجة التماثل بين ما أعلنته الوثيقة وما نادى به باذيب. وأمام هذه الرؤية الواضحة والإصرار على التغيير، لاذت القوى الرجعية بالفرار، حيث فر عتاة المشائخ إلى خمر، وإلى السعودية وبيروت. وهذا درس من دروس التاريخ، فحين تمتلك رؤية وتتحرك على أساسها، فإن جبهة القوى الرجعية وحلفاءهم يتوارون منهزمين.
كانت الجبهة الثورية متمثلة بالضباط الوطنيين كألوية النصر والثورة والوحدة والعروبة، والمشاة، ومدارس الصاعقة والمظلات وسلاح المدفعية والصواريخ، والطلاب والتيار الناصري وحركة القوميين العرب والماركسيين. وفي الجبهة المضادة كانت قوى المشيخ والقضاة وكبار التجار ممثلو وكالات الشركات الغربية، والإخوان المسلمون، والبعث والضباط الذين تم استقطابهم إلى هذه الجبهة.
كانت كتابات باذيب في بداية الستينيات تمثل منظوراً يضيء للثورة ما يجب عليها أن تفعله، وتنبه إلى كعب أخيل الثورة، وذلك من خلال مقالاته العديدة، فبعد مرور عام على ثورة سبتمبر كتب مقالاً بعنوان (هذه هي القضية في اليمن)، ونبه فيه إلى أن القوة المجردة وحدها لا تحل القضية، وأنه لا بد من إجراءات عملية في طريق التحول الاجتماعي، من أجل توسيع القاعدة الاجتماعية والسياسية للثورة، وكذلك ما نبه إليه في بحثه (طريقان للتطور في الجمهورية اليمنية –الإصلاح الزراعي هو الحل)، وما تطرق إليه أحمد سعيد باخبيرة، عضو الأمانة العامة للاتحاد الشعبي الديمقراطي، بمقالات عديدة تطرقت إلى المضمون الاجتماعي للثورة، والذي ينبغي العمل على تفجيره (مجرى الصراع بين القوى الثورية والقوى اليمنية منذ قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م حتى قيام 13 يونيو 1974م، الدكتور محمد علي الشهاري، ص234).
لقد نجحت القوى المضادة للثورة في تعطيل مشاريع التحول الاجتماعي، ومن ذلك المشاريع الزراعية واستصلاح الأراضي، وهي مشاريع كانت كفيلة بأن تغطي ساحل تهامة وزبيد والمخا. وقد ساعد في نجاح القوى المضادة للثورة عدم إيمان قادة جبهة الثورة بأن هناك إقطاعاً، وأنه يجب اجتثاث علاقاته، وركائزه، أي إعادة النظر في ملكية الأرض، وبناء قطاع عام وتعاوني قوي، والتوجه نحو بناء المصانع التابعة للدولة.
تم تعطيل مهمة شركة المخا الزراعية، والتي تحددت مهمتها باستصلاح مليون فدان في منطقة موزع، على أن يجري العمل على استصلاح أراضي تهامة الواعدة. وإلى جوار ذلك كان العمل بمصنع الغزل والنسيج ومصنع الإسمنت وشبكة الطرقات... الخ.
لكن قصور رؤية الجناح الثوري في الحكم، وعدم إدراكها لأهمية اجتثاث الإقطاع بوجهيه المستحكم بالأرض والإنسان، الذي مثله مشائخ الضمان والقضاة، رغم دعوة قلة من المثقفين الماركسيين في الاتحاد الشعبي الديمقراطي، وعلى رأسهم عبد الله باذيب، إلى ضرورة تصفية الإقطاع ومرتكزاته، وخاصة نظام المشيخ الذي يعكس بقاء العلاقات الاجتماعية المسيطرة، ودعا إلى ضرورة استحداث أنظمة عصرية لتحصيل الضرائب، بديلاً عن نظام الالتزام الذي كان على رأسه مشائخ الضمان، وإلغاء وزارة شؤون القبائل، وتحويل اختصاصها إلى وزارة الداخلية أو وزارة الحكم المحلي، والقضاء على الطابع الاستبدادي المتأصل للإدارة الحكومية لتكون في خدمة أمن المواطن واستقراره، لا سلطة قسرية إرهابية الطابع مفروضة عليه، وبأن تطلق للطبقة العاملة الوليدة حرية التنظيم والعمل (مجرى الصراع بين القوى الثورية والقوى اليمينية، محمد علي الشهاري، ص268).
إن قصور وعي الجناح الثوري جعله يعلن عن قيام (الاتحاد الشعبي الثوري) في وقت متأخر، ففي نوفمبر 1966م تم تشكيل هذا التنظيم الشعبي الثوري، برئاسة عبد الله السلال، ويحيى بهران أميناً عاماً. لكن هذا التنظيم ظل (على السطح يدعو ويبشر بأهدافه، ويدعو الناس إليها، ولم ينزل إلى الأعماق، إلى قاع المجتمع، على الفلاحين والعمال والمثقفين الثوريين، والفئات الكادحة الأخرى صاحبة المصلحة في الثورة، لينظمها فيه ويدعوها إليه، وليجعل منها عموده الفقري، وليستعين في ذلك بالعناصر الثورية ذات الخبرة التنظيمية والرؤى الشعبية بحجة حزبيتها، ولم يكن السلال وجزيلان يمتلكان القدرة ولا الرؤية لإنجاز فعل ثوري من القاع الاجتماعي). وهكذا ظل هذا التنظيم عملياً في يد أمينه العام المؤقت يحيى بهران، ويد القيادة العربية بعيداً عن قواعده الشعبية (مجرى الصراع بين القوى الثورية والقوى اليمينية، الدكتور محمد علي الشهاري).

أترك تعليقاً

التعليقات