زمن التيه
 

محمد ناجي أحمد

أنا صنعاني الهوى 
وحدوي الهويّة 
يمني وفي خافقي 
عربي الانتماء
في اليمن كانت القومية والتوجهات اليسارية حالة سطحية، مشاعر ألهبتها خطب جمال عبد الناصر، وبؤس المكان بعلاقاته الإنتاجية المتراتبة اجتماعيا، والفقيرة في ثرواتها الطبيعية، وأرضها الزراعية المحدودة... في بيئة اجتماعية كهذه لم تأت التوجهات القومية واليسارية لتغيّر من طبيعة العلاقات والانتماءات والولاءات، لكنها تصالحت معها...
الوعي العشائري والقروي هو الرأسمال الحقيقي الذي يستخدم المقولات الحداثية بعمومياتها لتعزيز سطوته.
حين كان يذهب أبناء القرى في تعز وإب إلى جامعة صنعاء بلافتاتهم القومية والماركسية، كانت القرية بقيمها العشائرية هي التي تنتقل إلى هناك، لم يكن هناك فرد ليتأثر بالعلاقات المدينية، وإنما مجموعة مشدودة بكبير (الشيبة) يحاسبهم، ويهديهم سبل الرشاد!
لم يتزحزح وعيهم تجاه المرأة؛ هي (مكلف تشتي زواجة)، وبوعيهم العشائري يصبح الحق المنقوص للمرأة، والذي حاول الفقهاء موازنته وتبريره بمقولات مثل (الغرم بالغنم) يزداد انتقاصا في الممارسة الحياتية والمعيشية، فهي تصبح تلك الغريبة، التي تمثل تهديدا ممكنا في تبديد إرث الأب، والعصبة، وتمليكه للغرباء من الأنساب!
لقد قالها ابن عربي (كل شيء لا يؤنث لا يعول عليه)، لذلك كان من المستحيل التعويل على أحزاب (أبوية) تنقاد (للكبير) تحت مسمى (الشيبة)!
في انتخابات المؤتمرات العامة لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين يتكتل أدباء إب بوعي قرائبي، ثم يكون الالتزام الحزبي أمرا ثانويا، ويتعصب أدباء تهامة ساحليا، وقس على ذلك جغرافيات أخرى!
هذه البنى المغلقة لم تستطع الانتماءات السياسية القومية واليسارية اختراقها، ناهيك عن تفكيكها. ولعلّ في اقتتال 13 يناير 1986م، ما يوضح انكشاف العلاقات المتخلفة من مناطقة وقبلية وجهوية، وهي نقطة الضعف التي استطاع الغرب بوكيله السعودي استثمارها لضرب التجربة الاشتراكية في ما سمي جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية!
علينا ألاّ نصاب بالإحباط حين نجد القوميين واليساريين قد انساق أغلبهم وراء كيانات (محطات البنزين) في حربها ضد اليمن أرضا وإنسانا!
تماما كما جاء في تيه (عبدالرحمن منيف) ينقسم (أهل القرية) في التعامل مع التحديات بعد مجيء الأمريكان، إلى ثلاثة أنواع (نوع مثل متعب الهذال... يتنبه لها وينبه الآخرين. نوع آخر تهاون منذ البداية في استجابته للتحذير، اعتبره مبالغة وإسرافا من الهذال، ولكن سرعان ما فهم وانضم إلى متعب. ونوع ثالث هم المتواطئون والمستفيدون الذين يرغبون في اللعب ضمن شروط جديدة مثل ابن الراشد).. النوع الثالث هم الأكثر رواجا ووجودا...
يبدو الأمل القومي واليساري في تحقيق الأهداف السياسية والاجتماعية شبيها بمصير (وردة) صنع الله إبراهيم، وتيهها في الصحراء مع جنينها المحتمل، الذي ظل مجرد حركة خانها أقرب الناس إليها!
يجسد (متعب الهذال) القيم التي كانت سائدة قبل سيطرة قيم الريع النفطي، يغيب الهذال منكسرا، لكن عوداته المختلفة هي شكل من أشكال الرفض والتصدي...
يبني ريع النفط (مدنا ملحية) مؤقتة بزوال نفطها كمدن الذهب في الغرب الأمريكي التي تلاشت باستنزاف المناجم!
في (مدن الملح) يعي الأمريكان كل صغيرة وكبيرة عن المكان وعاداته، وعلاقاته الاجتماعية وتاريخه، واقتصادياته، بل وعواطف البدو ومشاعرهم (يبكون في دواخلهم. البكاء يخفف عنهم. الدموع الحزينة تطفو على شكل صرخات وتوجع...). وفي جنوب البحر الأحمر وبحرنا العربي يعي الأمريكيون التكوين السياسي والاجتماعي والتاريخي والثقافي واللغوي لجنوب الجزيرة العربية، لهذا يلعبون على وتر الانتماءات المذهبية والعرقية والطائفية والجهوية إلخ. إنهم يعبثون هنا وهناك كي تظل أمريكا هي الأقوى، والآخرون كائنات مجهرية، حفاظا على هيمنتهم على منطقة الشرق الأوسط ومداخله وبواباته!
الذي هرول في اليمن إلى أحضان القفازات الغربية هو الوعي العشائري والقرائبي، لم يسقط الانتماء الوطني والعروبي، ولا خيار للناس سوى مجتمع موحد بأرضه حر بسيادته وأفراده، عادل في تنميته المستقلة، الموجهة من أجل الإنسان وللإنسان حاضرا ومستقبلا.
يمكن لبطل عبد الرحمن منيف (كمكان)، (أن ينهار في لحظة ما، وقد يسقط، لكنه لا ينتهي. هناك من يكمل الطريق دائما)...

أترك تعليقاً

التعليقات