بين احتلال الماضي والحاضـر
 

سامي عطا

د. سامي عطا / لا ميديا -

كانت اليمن ومازالت محل أطماع الغزاة، لأسباب عديدة، لكن السبب الرئيسي يكمن في موقعها الاستراتيجي الذي ظل ومازال يزداد أهمية لعدة عوامل، فلقد كانت اليمن طريقاً تجارياً عالمياً تمر عبره أو بمحاذاته حركة التجارة العالمية. وازدادت أهمية اليمن الجيوسياسية بافتتاح قناة السويس عام 1869، وصار باب المندب وخليج عدن ومعظم موانئه الساحلية من الأهمية بمكان لقوى الهيمنة العالمية ضمن عوامل الصراع البيني بينها، وعليه احتلت بريطانيا عدن في 19 يناير 1839 احتلالاً مباشراً بذريعة غرق ونهب سفينة بريطانية حينها (سفينة داريا دولت)، وبعد معارك مع حامية عدن التي كانت تحت إدارة السلطنة اللحجية حينها تمكنت بريطانيا من احتلال عدن وفرض شروطها على سلطان لحج، وأخذت خلال تواجدها في عدن توسع نفوذها مع المحميات والمشيخات والسلطنات عبر سياسة "فرق تسد" واستمر الاحتلال البريطاني للجنوب وعدن تحديداً ما يقرب من 129 عاماً.
ومثلما كان غرق سفينة "داريا دولت" ونهبها ذريعة لاحتلال عدن من قبل بريطانيا، فإن ذريعة اليوم تتمثل بـ"سفينة شرعية الفنادق" وضرورة إعادتها و"درء النفوذ الفارسي"، لكن اليوم لم يعد الاحتلال مباشراً من قبل بريطانيا وقوى الهيمنة العالمية الأخرى، بل هو احتلال غير مباشر وعبر أدواتها المحلية والإقليمية.
لقد أضحى معظم الشريط الساحلي اليوم تحت الاحتلال غير المباشر، واستغلت قوى الهيمنة نتائج سياسات عصابة حكم محلية تسعى إلى عودتها للحكم. ومن المؤسف أن من يقف في صف هذا الاحتلال ويشكلون قوام القوات فيها هم ضحايا قوى النهب المحلية والإقليمية والدولية.
فلقد كان لسياسات إفقار وتجهيل الناس من قبل عصابة حكمت البلد دوراً في توفير البيئة لهذا الاستعمار بأن يعود من جديد، وإن كان بصورة غير مباشرة، وتوظيف ضحايا سياساته أدوات لتحقيق أجندة مصالحه.
كتب الاستاذ عبدالله باذيب في 30 نوفمبر 1967: "أعلن استقلال بلادنا وميلاد جمهوريتنا، جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، وكان ذلك تتويجا لكفاح شعبنا ضد الاستعمار البريطاني الذي جثم على صدر بلادنا نحو 130 عاما، وتسجيلاً لانتصار الثورة المسلحة، ثورة الـ14 من أكتوبر المجيدة. ومن 19 يناير 1839، وهو اليوم الذي احتل فيه الإنجليز بلادنا بالحديد والنار، إلى يوم 30 نوفمبر 1967، وهو يوم خروج الإنجليز من بلادنا وبالحديد والنار أيضاً، خاض شعبنا كفاحاً شاقاً عنيداً ومر بطريق طويل من الهيئات والانتكاسات ومن الانتفاضات والخيبات؛ ولم يكن يهدأ إلا ليثور. مقدمات وإرهاصات الثورة: تميزت سنوات الخمسينيات بالروح الكفاحية العالية التي أبداها شعبنا والتي تجلت في هباته المسلحة في الأرياف وحركاته الإضرابية وانتفاضاته العمالية والطلابية والشعبية في المدن، وكانت هناك معالم هامة في طريق النضال: انتفاضة المكلا عام 1951، وهي الانتفاضة التي هاجم فيها الشعبُ القصرَ السلطاني ومزق العلم البريطاني، انتفاضات مسلحة في الأرياف خلال أعوام 54 – 58، من أشهرها انتفاضة الربيزي في العوالق العليا، والدماني في العواذل، والمجعلي في دثينة، ومحمد بن عيدروس في يافع، والمراقشة والنخعين في الفضلي... وبالرغم من أن هذه الانتفاضات كانت بقيادة مشائخ القبائل، وفي إحدى الحالات أحد السلاطين، وبالرغم من أن هؤلاء القادة كانوا يتحركون بعوامل شخصية أو دينية، إلا أن هذه الانتفاضات كانت في حقيقتها تعبيراً عن سخط الشعب على الوجود الاستعماري ومحاولاته لمد نفوذه وتوسيع استغلاله، وعلى طغيان السلاطين الذين تحولوا على يد الإنجليز من مجرد ممثلين لقبائلهم وعشائرهم يمكنها أن تبقيهم أو تعزلهم متى شاءت، إلى حكام مطلقين وإقطاعيين كبار لا سند لهم سوى الوجود البريطاني السياسي والعسكري".
وما كتبه عبدالله باذيب يعكس صورة الأوضاع السائدة في الخمسينيات وما قبلها. كما يمكن لهذه الصورة أن تعطينا صورة بانورامية للواقع في الجنوب تكاد تتماثل مع صورة واقع اليوم، وما يختلف هو أن احتلال الأمس كان احتلالاً مباشرا أما احتلال اليوم فهو احتلال غير مباشر أو متدثر بعباءات محلية وإقليمية وبالقوى نفسها التي كان يستند إليها احتلال الأمس، فلقد ظلت هذه القوى مرتبطة بحبل سري مع الاستعمار ولعبت دوراً كبيراً في إجهاض الجنوب واستقلاله والعودة مرة أخرى من نافذة إخفاقات ثوار 14 أكتوبر بعد الاستقلال ومعضلات ما بعد الاستقلال.
ومن يعقد مقارنة بين احتلال الأصلاء (احتلال الأمس) واحتلال الوكلاء (احتلال اليوم)، سيجد تماثلاً في استخدام الأدوات، وكأن مطبخ إعداده واحد، إذ تجد القوى المستخدمة هي نفسها وإن تغير شخوصها، ومازالت سياسة "فرق تسد" من الوسائل المستخدمة، ويسعى الاحتلال من خلالها إلى تحقيق أجندته، وذلك عبر انقسام المجتمع وتحقيق غلبة نسبية للقوى التي تسبح في فلكه، بل حتى هذه القوى تم تأسيسها مفخخة بالقابلية للانقسام والتشظي في أي وقت، أي أنها قوة تحمل بذور نزاع وانقسام داخلها، فهي قوى غير متجانسة وتعاني إرثاً من الصراع.
بالمختصر: الاحتلال كعادته يسعى إلى قيام كيان وظيفي شبيه بالكيانات الوظيفية التي أنشأها استعمار الأمس في المنطقة، تكون نخبته مرتبطة بمصالح مع مركز الهيمنة العالمية، ولا تربطه علاقة مع شعبه إلا من خلال قدرته على ترويض الناس وخداعهم وتضليلهم، أي أن الاحتلال لا يريد إلا كياناً وظيفياً يلبي مصالحه ومصالح قلة في البلد.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل سيطول المقام باحتلال الوكلاء؟!
لا أظن ذلك، وذلك لعوامل كثيرة، منها أن الزمن غير الزمن، ووسائل المقاومة صارت أكثر فاعلية، ناهيك عن أن وعي الناس الراهن أكثر حركية من ذي قبل، بسبب تقنيات المعلومات، بالإضافة إلى قدرة الناس على تنظيم أنفسهم وابتداع أساليب نضال مختلفة، وبات بمقدورهم الحصول على وسائل مقاومة. بالمختصر: نحن نعيش عالماً متحركاً وأكثر ديناميكية من ذي قبل. ولهذه العوامل مجتمعة، فلن يطول المقام باحتلال الوكلاء.
وفي اعتقادي أن احتلال اليوم يقامر ويراهن على العودة مرة أخرى، لكن سيكون مصيره الفشل طالما وهناك أحرار فوق هذه الأرض، ولقد أخذت تتكشف يومياً كثير من الحقائق وتتعرى أكاذيبه، وبدأ يتشكل وعي حقيقي بأهداف هذه الحرب العدوانية، وقادم الأيام مليء بمفاجآت نهوض حقيقي تعتمل في الأراضي الخاضعة للاحتلال ومليشياته، وحينها لن تتكلم هذه الأرض إلاّ بلغة أهلها.
ولعل السؤال العملي الأكثر إلحاحا اليوم هو: ما العمل؟!
ينبغي توحيد جهود كل أحرار هذا البلد وباختلاف مشاربهم على قاعدة برنامج سياسي عملي يكون عنوانه العريض "تحرير الأرض اليمنية من الاحتلال"، وتحتاج عملية استنهاض الجنوب أخذ خصوصيته الثقافية، ويتم مخاطبته من داخل هذه الثقافة الوطنية واستخدام كل وسائل الاستنهاض، بما فيها الأدب والفن والموروث الغنائي، ويسعى الإعلام إلى خلق نخب جنوبية تكون مقبولة ونزيهة وتقدم كنموذج لقيادة مستقبلية، وينبغي التخطيط والتجهيز للعمليات العسكرية داخل الجنوب، ومن خلال عناصر جنوبية على كافة المستويات، وتأخذ عملية التحرير بعد الجنوبيين شركاء أنداداً في تحرير أرضهم، وألا نكرر خطايا حرب 1994، حيث أسهم فيها جنوبيون، لكن على قاعدة الأدوات، وعندما انتهت الحرب، ذهبت السلطة إلى تكريس ثقافة "جنوب مهزوم" و"شمال منتصر". هذا المناخ لن يكون رافعة نهوض. ونهوض البلد يحتاج إلى إرادات منتصرة.

أترك تعليقاً

التعليقات