سامي عطا

د. سامي عطا / لا ميديا -
بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة الذي يصادف ثالث خميس من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام، حيث صادف 17 نوفمبر هذا العام، بهذه المناسبة الاحتفائية أتقدم بهذا المقال..!
كتب الفيلسوف والمؤرخ ول ديورانت (5 نوفمبر 1885 - 7 نوفمبر 1981) في تمهيد الفصل الأول من كتابه متعة الفلسفة (Pleasures of philosophy)** يتساءل: "لماذا لم تعد الفلسفة اليوم محبوبة؟ ولماذا اقتسم أبناؤها -أي العلوم- ميزاتها، وألقوا بها خارج الدار، كأنها الملك لير Lear، في عقوق أشد قسوة من رياح الشتاء؟ كان أقوى الرجال في قديم الزمان على استعداد أن يبذلوا أرواحهم في حياتنا؛ فقد آثر سقراط أن يكون شهيداً لها من أن يعيش موليا الأدبار أمام أعدائها؛ وخاطر أفلاطون بنفسه مرتين ليفوز بمملكة لها؛ وعشقها مرقص أوريليوس أكثر من عرشه؛ وحرق برونو حياً ولاء لها. وكانت الفلسفة يوماً ما مصدر خوف العروش والبابوات فألقوا المؤمنين بها في السجن حتى لا تسقط الأسر الحاكمة. ونفــــت أثينـــا بروتاجـــوراس، وارتعشـــت الإسكندريـــة أمـــام هيباتيا. وخطب أحد البابوات العظام ود إرازمس خوفاً منه. وطرد الحكام والملوك فولتير من بلادهم، ثم أكلت الغيرة نفوسهم عندما انحنى العالم المتحضر في النهاية أمام عظمة قلمه. وعرض ديونيسوس وابنه على أفلاطون حكم سيراقوسة. وجعلت معونة الإسكندر الملكية من أرسطو أعلى رجل في التاريخ. وكاد الملك البحاثة أن يرفع فرانسيس بيكون إلى زعامة إنجلترا وحماه من أعدائه. ونازل فردريك الأكبر في منتصف الليل، بعد نوم قواده العظام، الشعراء والفلاسفة، حاسداً إياهم على أتباع ممالكهم غير المحدودة ونفوذهم الخالد. كانت تلك الأيام عصر عظمة الفلسفة، حين طوت في شجاعة كل معرفة تحت جناحها، وتقدمت في كل مكان صفوف التقدم العقلي".
وظلت الفلسفة والموقف منها محل تساؤل أصدقائها وأعدائها، ولا يكاد يخلو زمن من أزمنتها إلاّ وتجد هناك من يحب الحكمة ويعشقها وفي المقابل هناك من يكرهها ويمقتها، ومع ذلك محال أن توجد حياة دون وجود الفلسفة، فإذا كانت الحياة رديفة بوجود الإنسان، فإن الفلسفة حينها تغدو ضرورة إنسانية. وفي دفاع الفيلسوف كارل بوبر عن أهمية الفلسفة وعد وجودها بحكم الضرورة الإنسانية وخلص إلى أن كل إنسان فيلسوف بطبعه، ولكنه صنف الفلسفة نوعين:
فلسفة شعبية من جهة وفلسفة أكاديمية من الجهة المقابلة، الأولى تجدها عامة وما من إنسان مهما خلا حظه من التعليم أو كان تعليمه يسيراً إلاّ وتجد له فلسفة حياة، بينما الثانية هي الفلسفة التي يتم تحصيلها في أروقة الجامعات.
نعود إلى سؤال الفيلسوف ول ديورانت "لماذا لم تعد الفلسفة اليوم محبوبة؟"، وهو سؤال إشكالي، وإذا نظرنا إلى زمن طرح السؤال، فإننا سنجده في العام 1929م زمن ما عرف في الأوساط الاقتصادية بالكساد، وأعيد طرحه في العام 1953م إثر الحرب العالمية الثانية، وإذا ما تتبعنا تاريخ الفلسفة سنجد أن السؤال حول الفلسفة وأهميتها دائماً ما يأتي في نفس المناخات، كتب هيجل في كتابه موسوعة العلوم الفلسفية أن كراهية العقل لنفسه ميزولوجيا Misology تنتشر في زمن الانكسارات والهزائم ويغدو مطلب الناس وملاذهم العالم الحسي ويضيقون ذرعا بالعقل وتنظيراته، وقد قال هيجل واصفاً هذا المزاج العدمي: «يؤدي تقهقر الفكر، لسوء الحظ إلى ضرب من "كراهية العقل والتفكير.. Misology" (أو كراهية المنطق والتدليل العقلي عموماً) بحيث يتخذ موقفاً عدائياً من جهوده, كذلك الموقف الذي يتخذه ما يسمى مذهب المعرفة "المباشرة" الذي يذهب إلى أن هذه المعرفة (المعرفة الحسية المباشرة) هي الصورة الوحيدة التي نستطيع أن نصل بواسطتها إلى معرفة الحقيقة».
ويمكن أن نلاحظ عزوفا ورفضا للفلسفة في زمن انحطاط الحضارة العربية الإسلامية وأفولها وظهرت المواقف السلبية منها، فزمن الانكسارات والهزائم يولد نزوعا عدائيا للعقل والتفكير العقلي وتكون الفلسفة والمشتغلون فيها الضحية الأولى.
ومع ذلك تظل الحاجة إليها من ضرورات النهوض، فلا حضارة ولا مدنية من دون فلسفة، فلقد رهن ديكارت مقدار أي حضارة بمقدار ما تمتلكه من فلسفة: "إن الفلسفة وحدها هي التي تميزنا عن الأقوام المتوحشين والهمجيين، وإنما تقاس حضارة الأمة وثقافتها بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها، ولذلك فإن أجل نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد هي أن يمنحه فلاسفة حقيقيين" رينيه ديكارت كتاب مبادئ الفلسفة.
لم تك المعرفة بهذا التعدد والتنوع الذي نشهده في حياتنا، كما لم تك بهذه السعة اللامتناهية، ولئن كانت حياة الإنسان يحكمها مبدأ التطور والتقدم، فإن هذا التطور المادي يرافقه ويستلزمه تطور معرفي وتطور قدرات الإنسان العقلية ويتطور جهازه العقلي ويكتسب من خلالها طرائق تفكير جديدة تمكن الإنسان من حل مشكلات كانت عصية على الحل، وهذا كله لا يمكن بلوغه إلاّ بتطوير القدرات الذهنية للإنسان وعندما يكتسب العقل البشري أدوات جديدة لم تك معهودة من قبل تساعده على دفع الحياة إلى الأمام.
الفلسفة معرفة غير قابلة للإلغاء من حياة الإنسان وغير قابلة للدحض، لأن محاولة دحضها تدخل الساعين إلى حرمها، أي كما قال أرسطو إذا أردت أن تدحض الفلسفة، فعليك أن تتفلسف. ولذا فإن حكم التفلسف في حياة الإنسان حكم ضرورة لا غنى عنها.
وما من معرفة تجريبية أو تطبيقية يمتهنها "س" أو "ص" من الناس إلاّ ويكون لزاماً أن يتخلق من بينهم أفراد ترتقي عقولهم إلى مصاف الفلاسفة في تلك المعرفة، فمثلاً هناك أدباء وشعراء، وهناك اقتصاديون وخبراء اجتماعيون وسياسيون وأطباء وفيزيائيون وكيميائيون وأحيائيون... إلخ، ومن بين هؤلاء يظهر فلاسفة أدب وشعر واقتصاد وعلم اجتماع وسياسة وطب وفيزياء وكيمياء وأحياء… إلخ، هؤلاء الفلاسفة يبلغون مرحلة القدرة على وضع نظريات وقوانين جديدة في علومهم، وبذلك يدفعون إلى نمو المعرفة ويساعدون على تقدم مجتمعاتهم.
ولكل شعب فلسفته تحدد سلوكه وطريقة إدارته لشؤونه وتعامله مع غيره من الشعوب، وعليه فإن دراسة الفلسفات بأنواعها المتعددة تمنحك القدرة على فهم أسلوب تفكير خصومك في لحظات الخصومات والصراعات، وتمكنك من تحديد توجهاتهم وسلوكهم وتتوقع ما يضمرونه وكيفية التعامل معهم، لا بل تمنح العقول القدرة على المبادرة، وتجنب ردود الأفعال، ولذا فإنه من الضروري لأي مجتمع يطمح إلى النهوض أن يمتلك عقولا متخصصة بطرائق التفكير وهذا ما توفره لنا دراسة الفلسفة.
ولئن يتعرف من يدرس الفلسفة على فلسفات الشرق القديم مثلاً، فإن هذه الفلسفات المختلفة لها أثر في التكوين الثقافي والوجداني لشعوب الشرق اليوم (الصين والهند وإيران وبلاد الرافدين ومصر)، وفهم الجذور الفكرية لشعوبها يمكنك من معرفة أسلوب حياتهم وطريقة تفكيرهم، كما يمكنك من التعامل معهم في مختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية.
كما تدرس في الفلسفة، العديد من الفلسفات، الفلسفة الغربية الأوروبية والأمريكية، وهذه الدراسة والمعرفة تمدك بكل ما يلزم للتعامل مع هذه المجتمعات أيضاً.
وبالمختصر تحصيل الفلسفة أمر مهم لأنها تمنحك طرائق التفكير بأنواعها وتمدك بطرائق تفكير جديدة تواجه بواسطتها مشكلاتك وتهتدي إلى حلول لها.
إن التفكير الاستراتيجي في مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للدول لا يمكن بلوغه إلاّ من خلال مراكز دراسات وأبحاث وجامعات لديها عقول ثاقبة تمتلك قدرات نظرية ومسلحة بالفكر الفلسفي.

أترك تعليقاً

التعليقات