سامي عطا

سامي عطا / لا ميديا -
ليست الهوية بطاقةً تُصمم في ورشة دعاية، ولا شعاراً يُرفع ثم يُنكّس وفق تحالفات السياسة العابرة. إنها في حقيقتها الأعمق، سردية جماعية حية، حُبكت خيوطها على نول الزمن الطويل. فهي عملية تكوينية مستمرة (سيرورة) تختمر في بوتقة التاريخ المشترك، وتستمد عصارتها من الحضارة المتراكمة، وتنطق بلسان اللغة، وتتجذر في تربة الجغرافيا، وتتغذى من المخيال الجمعي والأساطير المؤسسة. هذه المكونات ليست عناصر منفصلة يمكن انتقاؤها أو إقصاؤها، بل هي كالنظام البيئي العضوي المتكامل؛ ينهار البناء كله إذا اختل أحد أركانه الحيوية.
من هنا، فإن التعامل مع الهوية كلعبة "نرد" -حيث تُقلَّب الأوجه وفق المزاج الآني أو ضغط الحالة السياسية الراهنة- ليس مجرد خطأ تكتيكي سطحي، بل هو خطيئة وجودية ضد ذاكرة وروح جماعة بشرية. إنه محاولة لاستبدال النهر الجاري بحفنة من المياه المعبأة، والأشجار المتجذرة بباقات صناعية.
وانطلاقاً من هذا الفهم الجوهري، نستطيع تفكيك الوهم الكبير، محاولة فرض هوية مصنوعة في مختبرات الاستعمار أو ورش التفتيت على واقع حي ومعقد. خذ مثلاً مشروع "الجنوب العربي" الذي حاولت بريطانيا تشييده في جنوب اليمن. لقد كان هذا التصنيع الهوياتي، قبل كل شيء، أداة إدارية وسياسية لفصل الإقليم عن يمنيته وعن محيطه العربي الطبيعي، وخلق كيان تابع يُدار بمبدأ "فرّق تسُد".
هذا المشروع الاستعماري، رغم كل الدعاية والموارد التي بُذلت له، فشل في أن يترسخ في الوجدان الجمعي لأهالي الجنوب، لأنهم كانوا يحملون في ذاكرتهم تاريخاً أعمق وأغنى، تاريخ دول وممالك يمنية جنوبية (كحضرموت والممالك الحميرية والسبئية والقتبانية)، واشتراكاً عضوياً في اللغة والمنظومة الثقافية والاجتماعية مع الشمال، ونضالاً متصلاً ضد المحتل.
لقد اصطدمت الهندسة الاستعمارية الاصطناعية بسيرورة تاريخية طبيعية، فانكسرت. واليوم، يعيد بعض الأطراف إحياء هذا الشعار، فيكررون وهم الماضي دون أن يدركوا أنهم يحاولون زرع شجرة في فراغ، أو بناء قصر على ضباب.
ويأتي الخطأ الأكثر مأساوية عندما يظن فريق ما أنه يمكنه بناء كيان سياسي متماسك عبر التنكر لهويته الأصلية والتبرؤ من مشتركاته الحضارية مع "الخصم". هذا ليس خطأً استراتيجياً فحسب، بل هو انتحار ثقافي مزدوج.
1. خيانة الماضي والروح، فهو قطع للجسور مع موروث فني كالأغاني الحضرمية واليزنية التي تغنى باليمن كلها، ومع أدب شعبي وفكري يخلد قيماً وروابط تتجاوز الحدود السياسية المؤقتة. إنه تخل عن رأس المال الرمزي الهائل الذي يشكل مخزون الكرامة والاعتزاز والتماسك النفسي لدى الناس. إنه تشويه للذاكرة الجماعية التي هي أساس الصحة النفسية لأي جماعة.
2. تخلي عن المستقبل وإضعاف الكيان؛ فالكيان الذي يُبنى على نفي الذات هو كيان ضعيف الروح، وعديم الحصانة، وسهل الاختراق. من ينكر ماضيه يشبه من يبني قصراً على حفرة رمال؛ قد يبدو من الخارج مشرقاً للحظة، لكنه يفتقر إلى الأساس المتين الذي يحميه من عواصف المستقبل. كما قال الفيلسوف فريدريك نيتشه: "الخطر الذي يهدد البشرية ليس في أن يكون للإنسان هدف خاطئ، بل في أن يصبح بلا هدف على الإطلاق". والهوية بمعنى ما، هي الهدف الجماعي والرواية التأسيسية المُستمدَّان من التجربة المشتركة.
أما أخطر الأشكال فهو الانتحار الهوياتي بدافع الانفعال العاطفي الآني، كردة فعل على صدمة حرب أو إحباط من فشل تجربة وحدوية أو صراع داخلي. هنا يتحول الفعل السياسي إلى رد فعل هستيري، فيتم التخلي عن الهوية العميقة المتعددة الطبقات واستبدالها بهوية انتقامية أو تعويضية هشة، قائمة على ما نحن ضده، لا على ما نحن عليه. التاريخ يُعلّمنا أن الكيانات التي تأسست على ردة فعل غاضبة -دون مشروع حضاري أو سردية ثقافية متكاملة وغنية- كانت أقرب إلى فقاعة صابون، تلمع للحظة بلون الغضب ثم تختفي. الاتحاد الكونفدرالي الأمريكي (الجنوبي) أثناء الحرب الأهلية مثال صارخ؛ لقد تأسس دفاعاً عن مصلحة اقتصادية (نظام العبودية) وهوية إقليمية مزعومة، متنكراً للهوية الدستورية والقومية الأمريكية الأوسع، فكان مصيره الزوال السريع والعنيف، لأنه بنى وجوده على رفض الآخر لا على إثبات الذات بمشروع شامل.
فالخلاصة الحاسمة هي أن الهوية لا تُكتسب بالرغبة ولا تُشترى بالشعار، بل تُحصَّل وتنمو كصيرورة روحية وتاريخية. إنها تشبه اللغة الأم؛ يمكن للفرد أن يتعلم عشر لغات، لكن لغته الأم تظل هي المخزون الوجداني الذي يحلم ويصرخ ويتأمل من خلاله. هي نسيج وعي جمعي يستحيل دفنه، وينطبق عليها ما قاله المفكر أنطونيو غرامشي، "مقاوم لأنه طبيعي، وبسيط لأنه حقيقي".
قد تُسحق الهوية سياسياً أو تُهمش ثقافياً لفترة، لكنها كالنهر الجوفي؛ تظل تبحث عن ثُقب في صخر الواقع لتتفجر منه ينبوعاً عندما تسمح الظروف. من يحاول قتل هذه السردية الحية أو استبدالها بوهم مصنوع، لا يخون أرضه وماضيه فحسب، بل يخون المستقبل نفسه، الذي لا يمكن بناؤه إلا على أرضية صلبة من الحقائق التاريخية والروابط الوجدانية الأصيلة. تلك الروابط التي، في النهاية، هي وحدها القادرة على صياغة مصير شعوب قوية متماسكة، قادرة على المواجهة والإبداع، لأنها تعرف من أين جاءت، وتعرف بالتالي إلى أين تذهب.

أترك تعليقاً

التعليقات