نظام التفاهة!
 

سامي عطا

د. سامي عطا / لا ميديا -
حرب أوكرانيا والمواقف السياسية منها عادت بذاكرتي إلى كتاب «نظام التفاهة» للفيلسوف الكندي آلان دونو، الكتاب الذي لقي ترحيباً وانتشاراً واسعَين في الأوساط الثقافية والسياسية والاجتماعية، لطروحاته الجريئة وأسلوبه المختلف.
فكرة الكتاب الأساسية تقول: نحن نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام أدى تدريجياً إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل الدولة الحديثة.
بذلك، وعبر العالم، يلحظ المرء صعوداً غريباً لقواعد تتسم بالرداءة والانحطاط المعياريين؛ فتدهورت متطلبات الجودة العالية، وغُيّب الأداء الرفيع، وهمشت منظومات القيم، وبرزت الأذواق المنحطة، وأُبعد الأكفاء، وخلت الساحة من التحديات، فتسيّدت -نتيجة ذلك- شريحة كاملة من التافهين الجاهلين، وذوي البساطة الفكرية، وكل ذلك لخدمة أغراض السوق بالنهاية، ودائماً تحت شعارات الديمقراطية والشعبوية والحرية الفردية والخيار الشخصي.
تعرّف معاجم اللغات كلمة (mediocre) بـ«الاعتيادي» والعادي والمتوسط، كما تعرّف كلمة (Mediocrity) بالنظام الاجتماعي الذي تكون الطبقة المسيطرة فيه هي طبقة الأشخاص التافهين، أو الذي تتم فيه مكافأة التفاهة والرداءة عوضاً عن الجدية والجودة.
إذن فكلمة «مديوكر» تطلق على أصحاب «الأداء» المتوسط أو العادي أو الضحل. وبرغم هذه العادية في الأداء وقلة الموهبة، نجدهم موجودين بكثافة في المشهد، أيّ مشهد، إعلامياً وفنياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً، فهم الفئة اللينة سهلة التشكل وفق أمزجة الفئة التي قُبلت بأن يتم تعليبها فتسليعها وفق تواريخ صلاحية محدودة، والتي بنت حضورها بالإصرار على طرق الأبواب وطلب ما لا تستحقه، وبسبب هذا الإصرار على الطلب والسعي الدائم للعثور على أماكن بارزة لأقدامهم وسط الآخرين، حصلوا على وجودهم في الصورة، فيما انعزل الأحق منهم، قانعين بإعلان استيائهم من اختلاط الحابل بالنابل، ملقين اللوم على إرادة المشهد الذي يتحكم فيه أنصاف المواهب، والذي تحركه سياسة تبادل المصالح، والاستثمارات التي تؤتي أكلها ولو بعد حين.
يولي المؤلف أهمية كبرى لموضوعات الثقافة والأكاديمية والحوكمة وتنميط العمل في ظل النظام العالمي الجديد، ويرى أن «لا أهمية لأي شيء، كما تمَّ إيهام الناس، فلا سياسة ولا جامعة ولا إعلام، بل ولا حتى شؤون الصالح العام هي أمر مهم، إذ تقتضي التفاهة أن تتذكر أن الأمر بالنهاية لا يعدو أن يكون لعبة».
والثقافة صارت أداة هامة في توطيد أركان نظام التفاهة كما يحيط بنا اليوم، رغم التسميات المؤثرة والهالات اللامعة التي تحيط بكل ما هو ذو علاقة بالثقافة. ليس مهماً أن تكون مثقفاً ملتزماً أو تقوم بعملك الذي تحبه على أحسن وجه، الأهم أن تعرف كيف تلعب في مجتمع يحكمه نظام التفاهة. وللعب أسرار لا يجيدها إلّا من لم يتربَّ في أحضان الكتب وممارسة التفكير والتأمل. لنكف عن السمو حتى لا يُلقى بنا في سلة المهملات، ولنعمل بنصيحة آلان دونو: «لا لزوم لهذه الكتب المعقدة. لا تكن فخوراً ولا روحانياً، فهذا يُظهرك متكبراً لا تقدم أي فكرة جيدة. فستكون عرضة للنقد. لا تحمل نظرة ثاقبة، وسّع مقلتيك، ارخِ شفتيك، فكّر بميوعة، وكن كذلك. عليك أن تكون قابلاً للتعليب. لقد تغير الزمن، فالتافهون قد أمسكوا بالسلطة».
إنه زمن التفاهة وعصر صناعة التافهين والأبطال من لا شيء. التفاهة الآن صار الإقبال عليها أكثر من الإقبال على الخبز. زمن يحصل فيه الغبي التافه والجاهل على الامتيازات، والإنسان المجتهد الواعي العالم نصيبه النقد والتنكيل والملاحظات الفارغة.
إننا في زمن المسخ والميوعة وقلة الأدب، وقد صنفناها وساهمنا في صناعتها، ونحن نتحمل ما آلت إليه الأمور من رداءة، بسكوتنا ومشاهدتنا ووضعنا «الجيمات» هنا وهناك وتشجيعنا لهم بدل صناعة المثقفين الواعين والمخترعين المتعلمين. إنها السياسة التي تدير العالم وتريد الناس منحطين وجهلة وسفلة. إن نظام التفاهة يغزو العالم ويسيطر على الحياة الثقافية والسياسية.

أترك تعليقاً

التعليقات