مقلب الشقة!
 

عمر القاضي

عمر القاضي / لا ميديا -
سألني زميلي في الكلية عبدالله الشاووش: أين تسكن يا عمر؟ قلت له: معانا شقة تجنن. قال: مع أهلك ولا عزبة مع طلاب؟ قلت: عزبة للطلاب والحرفيين والمهنيين. قال: أيش رأيك نلتقي نخزن عندك. قلت له: على طول.. وأخذ رقمي وقتها. أنا لم آخذ كلامه على محمل الجد.
كانت هذه القصة في الترم الثاني من سنة أولى، لقد كذبت عليه أنني أسكن في شقة، بينما كنت أسكن في دكان في حي الكويت، مازال موجوداً حتى اللحظة ولم يتغير. الدكان يملكه أحد أبناء قريتنا وقد أوقفه أبناؤه كجانب خيري لروح والدهم (رحمة الله على روحه)، ويسكن فيه العمال والطلاب من أبناء القرية الذين ليس لديهم سكن. دكان سقفه زنج مخزق أغلبه، وكنا ننام تحت هذا الزنج أنا وعسكري متمرد من معسكره، لا يذهب إلا نهاية الشهر يستلم راتبه، وأستاذ خمسيني كان يدرس طلاب الابتدائية في مدرسة حكومية بعد الظهر.
كان أستاذاً لطيفاً وكريماً أيضاً، أذكر أنه كان في كل مرة يعود من المدرسة بلعبة، ومرة عاد بمسجلة صغيرة صادرها على طالب قال إنه مشاغب ومرة أخرى عاد إلينا بثلاثة مقالع (مخامي). ومرة عاد إلى الدكان ومعه أتاري صغير. وأتذكر جلست ألعب بالأتاري للفجر ولم أذهب للكلية اليوم التالي. أيضاً كان يقطن معنا اثنان من العمال، معلم مليس أسمنت، وكان طوال الليل يتصل للعمال حقه، ويقول لهم: رشيتم الجدران وحروف الشبابيك.. تكون أنت فاصل تقرأ، إلا وسمعته بكل صوته يتصل لعامل يبدو عاطلاً عن العمل، يستفزه ويقول له: أنت مش حق شغل، أنا بشوف أيش بتؤكل جهالك. 
أما العامل الآخر فكان شاقي يتحمل أحجاراً وخلطة وأحيانا يرص بعد معلم البناء وسط مداميك العمارة. هذا العامل طول الليل وهو قاعد معانا تشاهده وهو مبحلق شارد بعيونه لعرض الباب، ويسهي كل دقيقتين. وأحيانا يسألني خمس مرات في الليلة الواحدة: بكرت الجامعة تدرس وإلا لا؟ حتى لو كان يوم جمعة يسألني: بكرت الجامعة اليوم؟ أقول له: اليوم جمعة، ما لك، نسيت إنه جمعة. يقول: أيوه صح صلينا جمعة اليوم.
في إحدى زوايا الدكان اتخذت لي بقعة ملتصقة بباب الدكان تماماً، هروباً من معارك الفئران الغبراء آخر الليل. لا أخاف من الفئران، لكن حركتها ومعاركها تبدأ من بعد الساعة الواحدة ليلا وتقلقك. تسمعها وهي تركض ذهاباً وإياباً من فوق قاطع البلك الذي يفصل بيننا وبين مستأجر آخر. وأحيانا تشتد المعارك بين الفئران فوق القاطع فتتسع رقعة الصراع لتصل إلى وسط الطربال المعلق فوق رؤوسنا. وبين الفينة والأخرى يسقط فأر لعرض واحد منا. ونتقافز جميعا لنحسم أمره وإلى الأبد.
دكان بدون حمام، بدون سقف، والثقوب تملأ جدرانه والباب أيضاً.. عندما ينزل المطر كانت تقع كارثة بحقنا، حيث كنا نترك أماكننا وزوايانا ونجتمع وسط الدكان الصغير حتى يتوقف المطر.. هناك في الوسط أيضاً نجمع كل ما لدينا من بطانيات وفرش توارثناها من حزب العمال اليمني الذي مر أعضاؤه من هذا الدكان الصغير العظيم والمكشوف، هذه المساحة المتوسطة تقينا وتحمينا من البلل بفعل المطر المتسلل من ثقوب الزنج العلوي. لقد بادر بعض من سبقونا في الدكان وفعلوا طربالاً أخضر، وقد أصبح في ذلك الوقت متهالكاً ومخزقاً وغير مجد بسبب الثقوب المنتشرة في أغلب أجزائه. 
لقد اخترت زاوية ملتصقة بالباب باتجاه الشارع، فضلت إزعاج أصوات السيارات والشاحنات والدراجات على إزعاج الفئران التي لا تتوقف إلا صباحاً، بينما إزعاج السيارات يتوقف ويتلاشى من الشارع آخر الليل.
كان يوم جمعة وبعد المغرب بالضبط رن هاتفي، رديت: ألو.
سمعت المتصل يقول: عمر. قلت: أيوه، من أنت؟ قال: زميلك عبدالله الشاوش، وينك أشتي أجي أسمر عندك.
يا لعينة الجن والمصيبة، كذبت عليه أنني أسكن في شقة تجنن، بينما كنت أسكن في دكان بدون حمام.. يا فضيحة.
امشي بعد الكذاب لباب بيته، وها هو زميلي عبدالله يمشي قادماً إلي.
طبعا، ما عاد عرفت أكذب عليه، قلت له: أهلا تعال تعال، أنا في حي الكويت. زميلي عبدالله أتى بعد أن دللته عن المكان، واستقبلته في الشارع، ثم أوصلته إلى الدكان.. أول ما وصل كان متفاجئاً ومحرجاً وليس مقتنعاً بالمكان. لاحظت ذلك من خلال ملامح وجهه وقد أتضح هذا بعد أن قعد في البقعة التي أعددتها له.
استمر عبدالله من بداية التخزينة وهو يسألني: أنت ساكن هنا؟ مش مصدق. وأنا أرد عليه: أيوه هذه بقعتي، وهذه الملازم حقي. أخذ ملزمة وتفحصها ليتأكد ما إن كانت لي أو لا. وقد كانت لي بالفعل. قال: أين الشقة حقك التي كلمتني عنها. قلت: والله يا صديقي هذه هي الشقة التي كلمتك عنها بالكلية، وهؤلاء العمال الحرفيين.. ضحك.
المهم الشقة أمرها حسم، لكن باقى أمر الحمام.. طوال الوقت وأنا جالس أحدثه عن الكلية، وكنت أهم لو صديقي عبدالله يشتي يدخل الحمام. جلست أهم كيف أعمل ونحن بدون حمام. فنحن نذهب للجامع وعندما يغلق الجامع، نذهب حمامات عامة على بعد مسافة من السكن.
المهم حنبت، لو قلت له يقضي حاجته بالشارع إحراج. ولو قلت له بالحمامات العامة فهي بعيدة وإحراج أيضاً، أما نحن فقد تعودنا نذهب إليها وإن طالت المسافة.
حاولت أن أبعد قارورة الماء من أمامه بشكل غير مباشر حتى لا يشرب كثيراً ويطلب الحمام.
وقبل أن يطلب الحمام سألته: أين تسكن يا عبدالله. قال: في شملان. قلت له: شوف يا صديقي هنا بعد الساعة عشرة المكان طوارئ، إذا تشتي تنام هنا من الآن كلمنا، لأنه بعدين لن يسمح لك الأمن. قال: ليش أو نحن جنب السفارة الأمريكية. قلت له: لا هكذا عودونا، لأن هذا المكان يعتبر منطقة مهمة وحيوية، لذلك بعد الساعة عشرة يعتقلوا أي مواطن في الشارع ويأخذوه للقسم. وسألت العامل عبده: وإلا كيف يا عبده؟
كان عبده وقتها عندما سألته عشان يراكي معي لتمرير الكذبة، شاخصاً بعيونه لعرض الباب، فرد: أيوه. وأنا متأكد أنه مش عارف عن ماذا كنا نتكلم أنا وزميلي.
زميلي عبدالله ظل يضرب الهدرة حقي أخماس وأسداس لمدة ربع ساعة، ثم استأذن وغادر الشقة مدري الدكان، والحمد لله.. قال أجا يخزن في شقتي الجميلة!
صديقي عبدالله مايزال حياً يرزق لو واحد منكم صادفه، يسأله عن شقة عمر أيام الجامعة، والتي مازال يعتبرها أكبر مقلب في حياته، يعتبر أني فعلت له مقلب، مش داري أني كنت أعتبر هذا الدكان البسيط سكني المفضل، وأرتاح فيه أحلى من شقة وفلة في منطقة حدة، وأحلى من شقق ومنازل زملائنا الرأسماليين الذين كانوا يقعدون في الصف الأول بالقاعة.

أترك تعليقاً

التعليقات