أفول إمبراطورية
 

هيثم خزعل

هيثم خزعل / لا ميديا -
لا شيء اليوم يلفت أي مراقب لأوضاع المنطقة أكثر من تخبط الولايات المتحدة الأمريكية فيها.
منذ أن انتهى عهد إدارة ترامب استبشر الجميع بعودة الانتظام إلى النظام الدولي، عبر عودة الولايات المتحدة بإدارتها الجديدة إلى قواعد اللعبة القديمة.
بدأ الأمريكيون -عبر حشد حلفائهم- سلسلة من الخطوات في العالم وفي منطقتنا بالتحديد. حشدوا الجميع بوجه روسيا في مناورات البحر الأسود، محاولين ترميم الصورة الردعية لحلف الناتو، التي تصدعت مع الشقاق التركي الأوروبي، الذي فجره الخلاف على غاز شرق المتوسط. سحب الأمريكيون ذرائع الخلاف وحاولوا لملمة الأمور في بؤرته الأكثر سخونة، أي ليبيا. أغلقوا كذلك ملف مشروع أخونة المنطقة، بالإطاحة الهادئة بحركة النهضة في تونس. الإطاحة بالنهضة كان قد سبقها تقارب تركي مصري، وتركي سعودي، ومصالحة قطرية خليجية.
إذن، حاول الأمريكي لملمة شظايا البنيان المنهار الناتج عن فشل استراتيجيته المتمحورة حول نقطتين: تفصيل الإقليم العربي على قياس الإخوان المسلمين وتسليمه لتركيا لتديره بالنيابة عن واشنطن، وتعويض السوق الأوروبية عن غاز روسيا بغاز قطر وغاز شرق المتوسط.
صمود سورية ومنع سقوطها لم يفشل أهداف الأمريكي فحسب، بل سبب تشظي الحلف الأمريكي الواسع لتندلع صراعات بينية عنيفة بين أقطابه، بدءاً بالصراع التركي مع الخليجي المصري، إلى الصراع التركي الأوروبي، والصراع القطري مع الدول الخليجية ومصر.
في ظل هذه الصراعات الحادة أتت إدارة ترامب من خارج سياق المؤسسة الحاكمة في أمريكا، لتترك بانكفائها هذه الصراعات بحالة اشتداد وتضيف تعقيدا آخر إلى المنطقة، بتدشينها "صفقة القرن"؛ هذه الصفقة التي عملت إدارة بايدن على سحب مفاعيلها التفجيرية، بإفشال الانقلاب على الملك الأردني والإطاحة بالسلطة الفلسطينية، وبوقف تصدير النفط الإماراتي عبر موانئ "إسرائيل" بعد التهديد المصري بالانضمام إلى مشروع الحزام والطريق الصيني في المنطقة.
تبدو المنطقة منذ العام 2011 كمختبر كبير للتجريب الأمريكي، وحتى الآن تبدو نتائج التجريب الأمريكي طبخة بحص لا أكثر. استراتيجية الولايات المتحدة، المسكونة بهاجس صراعها مع الصين، لا تزال محكومة برؤية إدارة أوباما القائلة بالانسحاب من المنطقة و"الاستدارة نحو المحيط الهادئ" لتطويق الصين. تماشيا مع هذه الرؤية كان الاتفاق النووي أداة الولايات المتحدة في محاولة تحييد إيران أو احتوائها. فشل الأمريكي في ترتيب البيت الداخلي للحلفاء الإقليميين، حيث تحكم العلاقة بينهم توازنات هشة وصراعات خاملة قابلة للاشتعال. كما فشل في احتواء إيران. إلى جانب هذا الفشل، أضاف خصوم الولايات المتحدة تعقيدات وتحديات كبيرة في المنطقة. تموضع الروسي على سواحل سورية لمئة عام، وأنجزت الصين وإيران اتفاق إطار استراتيجياً لـ25 عاماً قادمة، كما تستمر الصين وروسيا بالقضم التدريجي للهيمنة الأمريكية الأحادية في الاقتصاد والأمن والدفاع في ساحات كانت تعتبر مناطق نفوذ أمريكية خالصة من السعودية إلى مصر والإمارات وتركيا.
في ظل هذا التعقيد، الذي يُعد تعبيرا عن فقدان الأمريكي سيطرته المطلقة وانعكاسا لعجزه ولأزمة خياراته في المنطقة والعالم، أتى الانسحاب من أفغانستان كحبة الكرز على قالب الحلوى. هذا الانسحاب الفوضوي والمهين فجر تساؤلات كبيرة لدى حلفاء الولايات المتحدة عن جدوى الاعتماد عليها بعد اليوم كقوة عالمية ضامنة. خلف الانسحاب فراغا تسعى القوى الدولية المناوئة لواشنطن إلى ملئه.
وبعد، فإن الأمريكي الذي استعاض عن الحروب العسكرية المباشرة أو بالوكالة، بالحصار والعقوبات، لتطويع الدول المناوئة أملاً في ترتيب أوراق المنطقة بما يناسبه، يحاول اليوم بناء حلف كرتوني يخفف تداعيات الأزمات البنيوية الثقيلة التي تعانيها كيانات المنطقة. هو يحاول تشبيك العراق بدول الخليج والأردن ومصر، واليوم يضطر بشكل كاريكاتوري لفك الحصار المضروب على لبنان وخرق العقوبات التي يفرضها على سورية.
لا يزال الأمريكي يجرب ويراكم الخسارات، ولا يزال أهل المنطقة يدفعون ثمن التجريب هذا، بانتظار انسحاب الإمبراطورية الآفلة من المنطقة أو سقوطها، سقوطاً بات وشيكا أكثر من أي وقت مضى.

 كاتب لبناني

أترك تعليقاً

التعليقات