أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -
واجهت ثورة 14 تشرين الأول/ أكتوبر تحديات سياسية عديدة مثلت عراقيل في طريق الاستقلال الوطني. فمع صعود النضالات الثورية الوطنية في جنوب اليمن المحتل، باتت قضية الاستقلال الوطني مطروحة على جدول التاريخ، فانتقلت بريطانيا من سياسة «فرق تسد» إلى سياسة «جمّعْ تسُدْ»، ومنذ ذلك الحين طرح في برنامج عملها مسألة تسليم السلطة للقوى العميلة لتمارس الهيمنة الاستعمارية عن طريق الأدوات، بما يبقي على النهب الاستعماري واستغلال الجغرافيا السياسية وإقامة قاعدة عسكرية.
بعد الحرب العالمية الثانية، ومع صعود نضال حركات التحرر الوطني في العالم، غيرت بريطانيا استراتيجيتها من “فرق تسد” إلى استراتيجية “وحِّدْ تسد”. نفذت بريطانيا استراتيجيتها الجديدة من خلال لم شمل السلطنات والمشيخات العميلة في كيان سياسي واحد يكون قادراً على حماية مصالح الاستعمار ومواجهة النشاط الثوري الوطني اليمني. وهكذا ففي العام 1959 أعلن قيام ما سُمي “اتحاد إمارات الجنوب العربي”، ثم تحول إلى “اتحاد الجنوب العربي”، بعد انضمام “جمهورية دثينة”.
أكدت نصوص الاتفاقية، التي بموجبها أُعلن قيام اتحاد إمارات الجنوب العربي، أن من حق الإنجليز توزيع قواتهم في أراضي الاتحاد وإقامة القواعد العسكرية عليها، واستخدام القوات المسلحة للاتحاد لحماية مصالح بريطانيا. وقد رُبط جيش الاتحاد بوزارة الدفاع البريطانية. كما اشترطت الاتفاقية استمرار سريان مفعول الاتفاقية السابقة بشأن ما سميت اتفاقيات الصداقة والحماية بين إنجلترا وحكام الإمارات والسلطنات.
ووفقاً لهذه الاتفاقية فقد حصلت بريطانيا على حق التدخل في الشؤون الداخلية للاتحاد في حالة وجود اضطرابات أو ثورات.
في 25 أيلول/ سبتمبر 1962، أي قبل يوم من ثورة 26 أيلول/ سبتمبر، تم التوصل إلى اتفاق يقضي بضم عدن إلى عضوية الاتحاد ابتداء من آذار/ مارس 1963. وهكذا فإن اتفاقية ضم عدن إلى اتحاد الجنوب العربي عزز سيطرة بريطانيا على عدن، وجعل وجود القاعدة الحربية الإنجليزية قانونياً، حيث تراجع وضع عدن من أرض مُحتلة ومُستعمرة يتحمل المستعمر مسؤوليتها ولا قانونية لوجوده العسكري فيها، إلى اعتبارها أرضا حرة شكلياً، والوجود العسكري فيها يأخذ طابع اتفاقية دولية.
ناضل أبناء عدن ضد قيام الاتحاد، وضد إلحاق عدن بالاتحاد، مطالبين بمنح الاستقلال لعدن والمحميات الجنوبية اليمنية. وقوبلت التظاهرات والنضالات الجماهيرية اليمنية في عدن ضد المشاريع الاستعمارية الجديدة بالقمع.
مع تفجر ثورة 26 أيلول/ سبتمبر، تحفزت القوى الوطنية المدنية في الجنوب اليمني المحتل، فتفجرت ثورة 14 تشرين الأول/ أكتوبر 1963 في الريف. كانت القوى الوطنية في الجنوب اليمني المحتل تواجه دائماً بحجة أن الحكم في الشمال اليمني هو حكم رجعي استبدادي، فكيف تطالب بعض القوى الوطنية بحقوق ديمقراطية في عدن وتسعى في الوقت نفسه إلى تحقيق الوحدة مع حكم رجعي استبدادي؟! وكانت هذه نقطة ضعف في موقف القوى الوطنية. وبقيام ثورة 26 أيلول/ سبتمبر 1962 تعدل موقف القوى الوطنية بشكل كامل، وأصبح مطلب الوحدة مع الشمال يُرفع، واشتد بذلك ساعد المعارضة والقوى الوطنية في عدن في مواجهة حكومة عدن والاتحاد وبريطانيا.
ويظهر تأثير ثورة 26 أيلول/ سبتمبر واضحاً في تصور بريطانيا أن الدمج قد مر بمعجزة، إذ لو قامت الثورة في شمال الوطن قبل يوم واحد أو تأخر تصويت المجلس التشريعي لعدن ليوم واحد لما مرت اتفاقية لندن الخاصة بالدمج.
كانت بريطانيا تعتقد أن مرحلة ما بعد الدمج ستكون هادئة في عدن؛ إلا أن الثورة قلبت هذا التصور، فقد زاد ضغط القوى الوطنية في عدن، وأصبح اليمن الجنوبي كله مفتوحاً أمام رياح التغيير التي حملتها القومية العربية بانتصار الثورة في الشمال، وبات واضحاً أمام بريطانيا أن القوى الوطنية ستلجأ إلى العنف، وخاصة إبان نظر مجلس العموم لاتفاقية لندن. وكانت بريطانيا مستعدة لمواجهة كل الاحتمالات في مواجهة الموقف الجديد بقيام ثورة الشمال، ولو اقتضى الأمر فرض حالة الطوارئ، وتعطيل دستور عدن(1).
إثر الدمج وقيام ثورة 26 أيلول/ سبتمبر سارت بريطانيا في مخططها الخاص بالاتحاد، رغم المعارضة الوطنية، وتم افتتاح الاتحاد بوضعه الجديد في 16 كانون الثاني/ يناير 1963، وقام حسن بيومي، زعيم الحزب الوطني الاتحادي، الذي كان الأداة الرئيسية في دمج عدن، بتشكيل وزارة عدن، بوصفه رئيساً للوزراء، واختارت حكومته الأعضاء الأربعة والعشرين الذين يمثلونها في المجلس الاتحادي، وخصص لعدن أربعة وزراء في الحكومة الاتحادية. ومنذ اليوم الأول لتشكيلها وجدت الحكومة العدنية نفسها في صدام مع المؤتمر العمالي والقوى الوطنية، التي لم تعترف بحكومة عدن لأنها لا تمثل الشعب.
قرار دمج عدن بحكومة اتحاد الجنوب العربي عقّد الخلافات الدستورية، ففي كانون الأول/ ديسمبر 1963 كان المفروض أن تبدأ المفاوضات في لندن بين المندوب السامي وحكومتي الاتحاد وعدن مع وزير المستعمرات الإنجليزي حول إيجاد تغييرات في الوضع الدستوري لعدن، التي كانت في ذلك الوقت إحدى ولايات الاتحاد. وفي 10 كانون الأول/ ديسمبر 1963 رمى الثوار قنبلة على الوفد المسافر إلى لندن. واستخدمت الدوائر الانجليزية الحاكمة حادث تفجير القنبلة في مطار عدن لصالح تأجيل محادثات لندن الخاصة بالقضايا الدستورية إلى أجل غير مسمى(2).
لاحقاً، وكانت ثورة 14 تشرين الأول/ أكتوبر قد تفجرت، سارعت بريطانيا إلى إجراء إصلاحات دستورية، لمعالجة وضع عدن، في سبيل تسليم السلطة لحكومة عميلة تراعي المصالح الاستعمارية، وقطع الخط على الثورة التحررية بقيادة الجبهة القومية.

مؤتمر لندن الدستوري الأول ١٩٦٤
أرادت بريطانيا من هذا المؤتمر أن تبحث وضع القاعدة العسكرية في عدن، وضرورة الاحتفاظ بها بإيجار سنوي. وكانت حكومة “المحافظين” البريطانية تحاول بذلك أن تحتوي قرارات الأمم المتحدة، وقد أوقفت جميع القرارات التي صدرت لصالح قضية الشعب اليمني في الجنوب، فدعت إلى عقد مؤتمر لندن الدستوري في 9 حزيران/ يونيو 1964.
حضر هذا المؤتمر السلاطين وممثلو حكومة الاتحاد؛ إلا أنه فشل، نتيجة للخلافات التي حدثت داخل المؤتمر بين السلاطين أنفسهم، حيث كانت بريطانيا تحاول احتواء الثورة المسلحة، وفى الوقت نفسه حماية ظهرها بإيجاد حكومة عميلة تحقق أهدافها وأطماعها. ولكن المؤتمر فشل، بفضل وعي الشعب اليمني والجبهة القومية واتقاد الحرب الشعبية وانسلاخ بعض السلاطين منه.
فعندما جاءت مناقشة رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة بدأ المؤتمر يصطدم بمقاومة السلاطين لأي اتجاه للانتقاص من صلاحيتهم ومسؤولياتهم في الحكم، وتكشف للسلاطين أن بريطانيا في سبيل المحافظة على مصالحها، ليس لديها مانع من التضحية ببعضهم، وشعرت بالفعل بريطانيا بالتحالف المصلحي الذي جمعهم طوال هذه السنوات، وانفجر المؤتمر من الداخل، ولم يكن أمام بريطانيا وعملائها إلا أن يسارعوا في لفلفة المؤتمر ويطلقوا بياناً طويلا جاء فيه: 
1 - إعادة تشكيل دستور الاتحاد بصورة تضمن استقلالاً مبكراً للاتحاد.
2 - إنشاء مجلس وطني ينتخب أعضاؤه بنظام الاقتراع المباشر حيثما أمكن ذلك، وأية ولاية ترى أن نظام الاقتراع المباشر لا يمكن تطبيقه عليها، بسبب انتخاب أعضائها بنظام الاقتراع غير المباشر.
3 - نص الدستور على قيام مجلس ولايات يتألف من ممثل واحد لكل ولاية. 
4 - عبر أعضاء الوفود عن رغبتهم بأنه ينبغي إثارة وضع عدن الدستوري مع الولايات الأخرى في الاتحاد، وعليه فقد التمسوا أن ترفع السيادة البريطانية بأسرع ما يمكن، بشرط أن تستمر بريطانيا في ممارسة السلطة التي تدعو إليها الضرورة في حالة الدفاع عن الاتحاد والقيام بالتزاماتها العالمية. وقد أعلن وزير المستعمرات البريطاني موافقة الحكومة على هذا الالتماس.
5- الاستقلال: طلب أعضاء الوفود موافقة بريطانيا على إعطاء الاتحاد الاستقلال، والاستمرار في تقديم المساعدات للدفاع عنه، وقد طالبوا بأن تعقد الحكومة البريطانية بأسرع ما يمكن مؤتمراً لتعيين تاريخ الاستقلال، ويجب ألا يتعدى العام ١٩٦٨، وعقد اتفاقية دفاعية تبقى بريطانيا بعدها في قاعدة عدن للدفاع عن الاتحاد والقيام بالتزاماتها العالمية.
عقد مؤتمر لندن الأول ومعركة التحرير التي انطلقت من ردفان في 14 تشرين الأول/ أكتوبر 1963 ما زالت متقدة، ولم تستطع القوات البريطانية إخمادها، بل إنه في أثناء عقد المؤتمر، توسعت الحرب الشعبية إلى “دثينة” في أبين على بعد 120 ميلا شرقي ردفان. كما قامت قوات الفدائيين بسلسلة من التفجيرات داخل القاعدة الحربية في عدن ذاتها. وتوصلت بريطانيا، نتيجة لازدياد المعارك المسلحة في الجنوب والإحراجات الدولية التي تمثلت في قرارات الأمم المتحدة في كانون الأول/ ديسمبر 1963، إلى ضرورة أن تتضمن مخرجات المؤتمر إعلان قيام “دولة الجنوب العربي”، وتحديد موعد للاستقلال، حتى تجد بذلك نوعاً من التأييد الدولي، وتنصرف بعده لمواجهة الثورة بالتعاون مع عملائها الذين سيجدون في تحديد موعد الاستقلال فرصة لكسر حدة الثورة وإمكان القضاء عليها.

مؤتمر لندن الثاني ١٩٦٥
في أتون الحرب الشعبية التحررية، جاءت حكومة ويلسون البريطانية في أواخر 1964 لتعلن عن مؤتمر دستوري ثان في لندن في 2 آذار/ مارس 1965، ووسعت تمثيل هذا المؤتمر بحيث ضم إلى جانب سلاطين الاتحاد المزيف والمستوزرين في حكومة عدن المنظمات السياسية التي لم تشترك في الثورة، بينها حزب الشعب الاشتراكي (الانتهازي بقيادة العميل الأصنج) ورابطة أبناء الجنوب العربي. وقد أكد مستر جرينوود، وزير المستعمرات البريطانية آنذاك، أن الهدف من هذا المؤتمر هو تقرير مستقبل الجنوب بالطرق السياسية. وكان واضحاً أن بريطانيا أو حكومة العمال تسلك المسلك نفسه الذي سلكته حكومة المحافظين السابقة، فكانت مصرة على الاحتفاظ بالقاعدة العسكرية بموافقة الحكومة العملية.
 أكد وزير المستعمرات وقتها أن إيجار القاعدة متروك للمؤتمر الدستوري، الذي وصفته الثورة وقيادتها (الجبهة القومية) بمؤتمر لندن للخيانة، باعتباره يشكل خطراً مباشراً على الثورة المسلحة. وكذلك اتضح أن بريطانيا تستهدف التمهيد لقيام دولة موحدة للجنوب العربي. وقد بدا واضحاً أن حكومة ويلسون كانت تستهدف الأغراض نفسها التي استهدفتها حكومة المحافظين سابقاً، فحكومة ويلسون كانت ترفض تنفيذ قرارات الأمم المتحدة، وكانت تصر على الاحتفاظ بالقاعدة العسكرية بإيجار، وكانت تعمل على إيجاد دولة موحدة للجنوب العربي!
هذا التحرك الاستعماري على المستوى السياسي أوجد لدى الثورة مناخاً كبيراً للتحرك على كافة المستويات، فعملت الثورة على إحباط مؤتمر لندن للخيانة، وعززت مقاومتها لمؤتمر الخيانة بعمليات عسكرية جريئة وسط القاعدة البريطانية في عدن، وأطاحت بالكثير من ركائز الاستعمار، وعممت حركة المقاومة في كل مناطق الجنوب، علاوة على التعاطف والتأييد الشعبي في الداخل والخارج لمواقف الجبهة، مما كان له الأثر الكبير في إخفاق مؤتمر لندن قبل أن يبدأ.
بعد هذه التطورات أقدمت الحكومة البريطانية في 25 أيلول/ سبتمبر 1965 على إلغاء ما كانت تسميه “نظام الإدارة الذاتية” في عدن، وإقالة حكومة عدن برئاسة السيد مكاوي، وحلت الهيئة التشريعية، وأعطت السلطة الكاملة للمندوب السامي البريطاني، ريتشارد تورنبول، وشددت القوات البريطانية حملاتها الإرهابية ضد المواطنين، واستخدمت الهجمات المفاجئة للتفتيش والاعتقالات، وأعاد المندوب السامي البريطاني منطقة الجنوب إلى حظيرة الحكم المباشر بدون وزراء محليين ولا مجلس تشريعي ولا دستور، هذه الهيئات التي كانت تشكل ستاراً لحكم المندوب السامي لم يعد لها من واقع التطورات أي مبرر حتى تحجب الوجه الاستعماري الحقيقي الذي ظل يمارس الإرهاب والاضطهاد والتعسف من خلف هذه المؤسسات الشكلية ورموزها، الذين اقتنعوا بأن الاستعمار لا يتردد في تحطيم ما صنعت يداه من الأجهزة عندما لا تخدم مخططاته ومصالحه الاستعمارية.
كان أمين عام الجبهة القومية، قحطان محمد الشعبي، قد صرح أثناء تقاطر الوفود إلى لندن للمشاركة في اجتماعات التحضير للمؤتمر الدستوري، أن هذا المؤتمر هو مؤامرة جديدة في سلسلة المؤامرات البريطانية الرامية إلى تمييع قضية الجنوب والتلاعب بمصير الشعب، وأكد أن الجبهة القومية ستقاوم عقد هذه اللجنة بكافة الأساليب، ولن توافق على أن يشترك فيها أحد من أبناء عدن، الرسميين وغير الرسميين. واعتبر السيد قحطان أن هذا المؤتمر إصرار من حكومة العمال البريطانية على عدم الاعتراف بحق الشعب، ومناورة سياسية استعمارية.
وأكد قحطان الشعبي أن قرارات الأمم المتحدة لا تمثل كل الشعب ولا تتناسب مع طبيعة المرحلة التي وضعتها الثورة والتي غايتها التحرر التام من الاستعمار البريطاني بشتى مظاهره العسكرية والسياسية والاقتصادية وتصفية القاعدة البريطانية في عدن.

هوامش:
(1) د. أحمد عطية المصري: النجم الأحمر فوق اليمن، ص 184.
(2) ل. فالكوفا: السياسة الاستعمارية البريطانية في جنوب اليمن، ص 94.

أترك تعليقاً

التعليقات