أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -
عُقدت قمة بغداد في ظل تصاعد العدوان "الإسرائيلي" على غزة، وتزايد أزمات الدول العربية الداخلية؛ إلا أن مخرجاتها عكست استمرار الانقسام العربي، وضعف العمل الجماعي، وتكريس خطاب دبلوماسي معتاد وباهت يفتقر إلى آليات التنفيذ، وهو خطاب سياسي كتب بصيغة تكون توافقية ومقبولة من الجميع قدر الإمكان، فظهرت بهذه الصورة الهشة، بدون موقف عملي، فرغم الاتفاق النظري على عدة قضايا ضمن سقف متدنٍّ -رغم ذلك، فعند التنفيذ ستتصادم التوجهات العربية المتناقضة، لهذا فهو غير مطروح للتنفيذ.
شارك في القمة خمسة قادة فقط، ما عكس تراجع الثقل السياسي للقمم، وتزايد الخلافات العربية - العربية البينية، وغابت سلطات صنعاء الوطنية، وتجاهلت القمة حركات المقاومة، كحماس وحزب الله، أصحاب الفعل العربي الحقيقي في ميادين المواجهة مع أعداء الأمة العربية، واقتصر الخطاب على دعم "الشرعيات الرسمية".
حظيت القضية الفلسطينية بموقع مركزي شكلي، مع تبنّي لهجة خطابية عالية ضد الاحتلال؛ لكنها لم تُترجم إلى خطوات عملية أو مراجعة لمسارات التطبيع أو مبادرة السلام. ودعا البيان إلى حلول سياسية للأزمات (اليمن، سوريا، السودان، ليبيا)؛ لكنه خلا من خارطة طريق واضحة.
اللافت أنه أُعيد تعريف مفهوم الأمن القومي جذرياً، وحصره في إطار: إدارة الاستقرار، ومكافحة الإرهاب، والتنمية؛ مع تغييب كامل لخطاب المقاومة والتحرر الوطني الذي ساد منذ منتصف القرن الماضي، أي في لحظة الصدام مع الاستعمار والصهيونية.
وفي العموم، جاءت قمة بغداد كمحاولة لتغطية العجز العربي بخطاب دبلوماسي، دون إرادة سياسية حقيقية لتغيير المعادلات أو مواجهة التحديات، ما يكرّس دور القمم كمنصات خطابية أكثر من كونها أدوات لصنع القرار وتغيير الواقع القائم. هذا الظهور الباهت والانقسام العربي الواضح قرأه الكيان الصهيوني، وبدأ بعد يوم من انعقاد القمة بعملية عسكرية برية في شمال وجنوب قطاع غزة.
في المجمل، تكشف القمة فجوة متزايدة بين الخطاب السياسي الرسمي وبين واقع التحولات الإقليمية والشعبية، ما يعمّق أزمة الشرعية السياسية للنظام العربي، ويؤكد أن القمم العربية، رغم ما تبديه من شعارات الوحدة، لا تزال محكومة باعتبارات الحذر السياسي والتبعية والتوازنات الإقليمية أكثر من ارتباطها بإرادة جماعية لفعل عربي حضاري، يوازي ما يجري في أمريكا اللاتينية وما يجري في قارة أفريقيا الناهضة اليوم.
تصور القمة في بغداد للأمن القومي العربي متخلف عن المهام القومية، في ظل التحولات العالمية وإرهاصات تغير النظام العالمي.

تصوّر الأمن القومي العربي في "إعلان بغداد 2025"
يكشف "إعلان بغداد 2025"، الصادر عن القمة العربية الرابعة والثلاثين، عن تحوّل واضح في تصوّر الأمن القومي العربي، حيث لم يعد يُستحضر من منظور الصراع مع الاحتلال أو التحرر من الهيمنة الأجنبية، بل أُعيد تأطيره في إطار "إدارة الاستقرار" وتعزيز السيادة الوطنية والتنمية المستدامة ومحاربة الإرهاب؛ فالأمن القومي يُعرّف -ضمن البيان- بوصفه يشمل: حماية وحدة وسلامة أراضي الدول، رفض التدخلات الخارجية، دعم مؤسسات الدولة، مكافحة الإرهاب، ضمان الأمن الغذائي والمائي، وحماية البنية الرقمية والسيبرانية، أي ضمن السردية الغربية للنظام العالمي القائم.
تم التلميح لتدخلات كل من إيران وسورية -كما جاء في البيان- دون تسميتهما صراحةً، باستثناء تركيا التي ذكرت صراحة.
البيان يدين الجرائم "الإسرائيلية" وتدخلاتها العدوانية في سورية ولبنان؛ لكنه لا يُعاملها كخطر وجودي للأمة العربية كما كان عليه الأمر في أدبيات العقود السابقة، بل ينظر إليه كحالة سياسية خاصة تستدعي الحل السياسي لا المواجهة، واعتبار الإشكالية مع العدو الصهيوني بوصفها خلافاً حدودياً وتدخل "دولة جوار" فيما لا يخصها! أي أنه يُعامل الصهاينة المحتلين كما يعامل تركيا وإيران وإثيوبيا من هذا المنظور، منظور أننا عرب ودول الجوار هذه -غير العربية- تتدخل في شؤوننا العربية!
والعروبة هنا عرقية، بدون محتوى سيادي ثوري تقدمي كفاحي، أي ليست عروبة جمال عبد الناصر وهواري بو مدين وعبد الفتاح إسماعيل... بل عروبة حكام الخليج وكلاء الإمبريالية!
في المقابل، تَظهر الولايات المتحدة بصورة الطرف الوسيط أو الشريك الدولي، حيث ورد ذكرها في سياقات تفاوضية (كما في ملف اليمن)، دون أي إشارة إلى كونها قوة مهددة للأمن القومي العربي.
وقد غاب كلياً عن البيان خطاب التحرر الوطني والمقاومة المسلحة، سواء في السياق الفلسطيني أو العربي العام. لم تُذكر فصائل المقاومة، ولم يُستخدم مصطلح "التحرر"، أو "الكفاح المسلح"، أو حتى "النضال الشعبي"، ما يعكس تراجعاً حاداً في الخطاب القومي التحرري الذي ميّز القمم العربية منذ منتصف القرن العشرين.
وبدلاً من ذلك، تبنى البيان لغة التسوية السياسية والمؤتمرات الدولية والمبادرات السلمية، مؤكداً على "حل الدولتين" و"الشرعية الدولية" و"الدعم الإنساني"، وكأن وظيفة السياسة العربية اليوم لم تعد دعم تحرير فلسطين، بل إدارة معاناة الفلسطينيين، وانتظار أن تتفضل "إسرائيل" بقبول "حل الدولتين" الذي وافق عليه اليسار الصهيوني - وهو حل ظالم بطبيعته؛ إلا أن اليمين الصهيوني الحاكم اليوم يرفض هذا الحل، وأصدر قراراً بمنع قيام دولة فلسطينية، ما ينسف كل السردية العربية عن حل الدولتين. هذا الأمر يعكس انزياحاً خطابياً عميقاً نحو تسوية الأزمات، بدل مواجهتها، واستبدل منطق التكيف مع الواقع الدولي بمنطق الصراع؛ أي التكيف والقبول بالتبيعة والهيمنة الغربية الصهيونية في ظل نهوض الشرق والجنوب العالمي نحو الاستقلال وانتزاع حقوقهما المسلوبة، وأدوارهما التاريخية وتفتحهما الثقافي وإسهامهما في الحياة الإنسانية؛ الأدوار التي قضت عليها العولمة.
القمة العربية في بغداد تعبّر عن تحوّل بنيوي في العقل الأمني العربي الرسمي؛ فمن مقاومة الاحتلال والتبعية، إلى احتواء الأزمات، ومن خطاب التحرر والمواجهة إلى خطاب التهدئة والدبلوماسية، في ظل تسليم ضمني بتفوق موازين القوى، والاعتماد على أدوات القانون الدولي بدل أدوات الفعل الشعبي أو المسلح. هذا التراجع مخيف وغير مقبول، خصوصاً مع وجود تغيرات في النظام العالمي وتراجع الهيمنة الإمبريالية الصهيونية على الصعيد العالمي وفي المنطقة ذاتها، بفضل حركات المقاومة والتحرر العربية الإسلامية واليسارية والقومية.
على الصعيد الدولي، تميّزت القمة بحضور ملحوظ لروسيا والصين، عبر رسائل رسمية عبّرت عن رغبة البلدين في تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع الدول العربية، ورفض الأحادية القطبية والهيمنة الغربية. وقد أكد كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ على دعمهما لقيام دولة فلسطينية مستقلة، وضرورة تعزيز التعددية القطبية، ما يشير إلى محاولات حثيثة لخلق توازن دولي جديد يُعيد رسم موقع العالم العربي في النظام الدولي المتحول.
والملاحظ هنا أن الخطاب الروسي - الصيني أكثر ملامسة للقضايا العربية ولمفهوم الأمن القومي العربي، من بيان القمة العربية ذاته! فالخطاب الروسي - الصيني يطرح بوضوح مسألة ضرورة تجاوز نظام الأحادية القطبية، الذي يعني تجاوز واقع الهيمنة الأمريكية - الصهيونية - الأطلسية على العالم العربي.

أترك تعليقاً

التعليقات