قمح الجوف و «قانون القيمة»
 

أنس القاضي

أنس القاضي  / لا ميديا - 
طالعتنا صحيفة "لا" الغرّاء بتحقيق ميداني عن زراعة القمح في محافظة "الجوف" في عدديها (1143 الثلاثاء 9 مايو، و1144 الأربعاء 10 مايو)، وهو تحقيق هام من واقع الميدان، وما تجربة زراعة القمح في الجوف إلا عينة تدل على واقع الإنتاج الزراعي اليمني عموماً في كل المحافظات.
ركّز التحقيق على الصعوبات التي تواجه إنتاج القمح في الجوف، كما جاء على لسان المزارعين ومسؤولي المزارع ومسؤولي الجهات الرسمية. وتمثلت تلك الصعوبات في العجز عن حصاد المساحات الشاسعة التي تم زراعتها، وعدم وجود دعم للمزارع الفردي والمستثمرين.

وبالتحليل نجد أن المشكلة الأساسية هي التناقض بين السياسة الوطنية (التي نقدرها) في التوجُّه نحو الزراعة، وبين التنفيذ (سواءً أكان حكوميا أم خاصاً أم مختلطاً)، وكذلك التناقض بين التوجُّه الحكومي بالتوسُّع في استصلاح الأراضي والعجز التقني عن توفير وسائل الإنتاج والحصاد الحديثة القادرة على شغل المساحة الجديدة، بما في ذلك ظروف الحصار الراهنة.
وهناك تناقض بين "تخلف قوى الإنتاج" وبين المهام الإنتاجية المتقدمة، بين مدى كون قضية الإنتاج الزراعي قضية علمية وإدارية حديثة، وبين التعامل العشوائي معها والتعامل بارتجال وعدم وجود تنسيق بين مختلف الجهات التي تعمل في هذا المجال من القطاع العام والخاص والمختلط، إذ يُفترض أن تتم عملية الزراعية على أعلى معايير العلم والإدارة والتكنولوجيا، من حيث اختيار المنطقة ومعرفة الطقس ثم التخطيط والإنتاج والحصاد والتخزين والتسويق، ولو تمت هذه الإجراءات لما خسر البلد محصول الجوف، ففي حال وجود تخطيط مركزي للقطاع العام والخاص والمختلط سيتم السماح فقط بزراعة المساحات الممكن توفر آلات كافية لحصادها.
وفي العموم تتسم الزراعة في بلادنا بتناقض بين طابع العمل (أسري غالبا دون تخطيط، أو محاسبة حديثة، ويدوي، وبوسائل حراثة حصاد متهالكة)، وبين طبيعة الاقتصاد اليمني الراهن الذي هو جزء من الاقتصاد العالمي القائم على "قانون القيمة"، الذي يفترض أن يكون الإنتاج منظماً وتبذل الجهود والموارد بما يلائم الاستهلاك ويضمن الربح وإعادة الإنتاج مجدداً.
على الصعيد العالمي باتت قضية الزراعة قضية علمية وصناعية تُسخَّر لها المليارات في الأبحاث العلمية والتجارب لتحسين السلالات، وتصنع لأجلها أحدث وسائل الإنتاج والحصاد والوقاية، وبهذه الطريقة تستحوذ دول بعدد الأصابع على معظم إنتاج القمح العالمي.
على صعيد الإنتاج الزراعي نستطيع القول بأن نمط الإنتاج الزراعي الإقطاعي - غير السلعي (الإنتاج للمقايضة والاستهلاك المباشر)، لم يعد المهيمن على القطاع الزراعي اليمني، الذي بات إنتاجه رأسمالياً قائماً على "قانون القيمة"، ويهدف إلى الربح ويلتزم بشروط عملية "تجديد الإنتاج"؛ لكن قانون القيمة ذاته مع سيادة الاقتصاد الحر وفي ظل تخلف قوى الإنتاج وعدم وجود تخطيط علمي يجعل الزراعة غير مربحة للمزارعين، وخصوصاً زراعة القمح، واليمنيون يعتمدون بشكل كلي على القمح المستورد في الغذاء، وما ينتج منه محلياً لا يتجاوز 3% من الاحتياج.
 لا يمكن لبلادنا أن تقلل من هذه الفجوة بين ما يستهلكه البلد وما ينتجه إلا حين يكون الإنتاج اليمني مراعياً "قانون القيمة" الاقتصادي، حين حيث تكون كلفة إنتاج القمح في اليمن مقاربة لكلفة الاستيراد لا أكبر منه، وبالتالي يصبح هناك جدوى اقتصادية لدى المزارع الذي يربح من بيع المحصول أكثر من خسارته على عملية الزراعة والري والحصاد، وجدوى لدى المشتري لتناسب السعر، وهذا هدف استراتيجي يحتاج لعقود من أجل تحقيقه، بالعمل التراكمي الدؤوب بقيادة الدولة، وفي تطوير دائرة قوى الإنتاج؛ أي: تطوير معيشة الفلاح والعامل الزراعي وتعليمه وصحته، وتطوير العلوم والمعارف المختصة بالجانب الزراعي، وتوفير وسائل الإنتاج والحصاد الحديثة.

نتائج التحقيق الصحفي
خرج التحقيق الصحفي بنتائج اتفق عليها كل من المزارعين والمهندسين والمسؤولين الحكوميين ومسؤولي القطاع الخاص، وأهمها التالي:
- تستمر عملية حصاد محصول القمح في الجوف خلال شهري آذار/ مارس ونيسان/ أبريل، وهي فترة طويلة، حيث إن بقاء سنابل القمح فترة أطول دون حصادها يتسبب في إهدار كميات كبيرة من المحصول.
- المساحات الزراعية في محافظة الجوف زادت اتساعاً خلال العام الماضي 2022 وهذا العام 2023، مقارنة بالسنوات السابقة، استجابة لتوجيهات قائد الثورة.
- المُزارع يتعب طوال العام في الحرث والبذر والري والاهتمام بالزرع، وعندما يأتي موسم الحصاد يجلس ينتظر آلة الحصاد.
- عندما تهب الرياح تتدحرج معها النباتات الصحراوية اليابسة والأشواك التي تتحول إلى عجلة كبيرة تأتي على السنابل.
- المُزارع يحتاج من الدولة أن تعينه بالبذور المحُسَّنة والأسمدة، وآلة الحصاد، وتسويق المحصول، حتى يستطيع أن يستمر في الزراعة ويتوسع في المساحات الزراعية ونحقق الاكتفاء الذاتي.
- إحدى المزارع الحكومية حصدت جزءاً كبيراً من المحصول يدوياً، وتركت السنابل المحصودة على الأرض بضعة أيام، ثم جاءت السيول الناتجة عن الأمطار وجرفتها.
- الجهات المختصة في الحكومة تسعى للتوسع في الزراعة؛ لكنها تفتقر إلى الميكنة التي تضمن النجاح والاستمرارية.
- "قبل نحو ستة أشهر أطلق مشروع زراعة الصحراء، وزرعوا مساحات كبيرة في الجوف، وإلى اليوم (مطلع نيسان/ أبريل) ما يزال المحصول قائماً، لم يستطع أحد الحصاد، لعدم توفر الحصّادات المركزية بالشكل المطلوب".
- المهندس الزراعي عبدالسلام مطهر: نجاح الزراعة واستمرارها والتوسع فيها يرتكز بشكل أساس على عملية الرِّبح، أكان ذلك لدى المُزارع في حقوله الخاصة أو لدى المستثمرين في المزارع الكبيرة. ولكي تكون المكاسب مضمونة يجب أن تكون تكاليف الزراعة قليلة، ولن يحدث ذلك إلا بالميكنة الزراعية، التي تضمن خفض تكاليف الإنتاج، مع الحصول على منتج بجودة عالية.

الاقتصاد اليمني وقانون القيمة
تأسس اليمن المستقل في شمال الوطن في العام 1918، وورثت الدولة الجديدة الظروف الاقتصادية المختلفة التي كانت سائدة إبان الاحتلال، والقائمة على الإنتاج الزراعي الطبيعي الريفي المتخلف، حيث البلد عبارة عن تجمعات سكنية مكتفية في ظل شحة ما تنتجه وتستهلكه بصورة مباشرة، إلى جانب تربية الحيوانات والعمل الحرفي المنزلي المحدود.
بداية من خمسينيات القرن الماضي بدأت تتغلغل العلاقات السلعية في البلاد، وظهر أول أشكال الزراعة الحديثة، وخصوصاً القطن في تهامة؛ إلا أن التغير الأكبر كان عقب ثورة 26 سبتمبر، التي فتحت البلاد أمام عملية التحديث التي كانت تجري بصورة بطيئة، فمن بعد الثورة تسارعت هذه العملية مع الانتقال من الإنتاج الزراعي البدائي اليدوي المخصص للاستهلاك المباشر (الطابع البضائعي الإقطاعي) إلى شكل جديد (الإنتاج السلعي النقدي الرأسمالي)، وبالتالي خضوع الإنتاج الزراعي لقوانين الاقتصاد الرأسمالي، وأفضت هذه العمليات الرأسمالية إلى إعادة تشكيل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في الريف، وبروز التفاوت الطبقي الحاد في الريف وتركز ملكية الأرض في يد فئات غنية على حساب الملاك السابقين الذين تحولوا إلى عمال زراعيين لدى الملاك الجدد. كما أن الأراضي الزراعية المصادرة من الأسر المالكة والمستصلحة بعد الثورة جذبت رأس المال من المدينة للإسهام في النشاط الزراعي، وهذا بدوره أفضى إلى إنشاء مزارع ذات طابع رأسمالي، وهي المرة الأولى التي تحولت فيها الزراعة في الريف إلى أملاك فئات اجتماعية من المدينة.
ترافق مع هذه العملية انتقال الفلاحين الأغنياء إلى تنظيم مزارعهم بأسلوب رأسمالي، حيث تحل الآلة والعامل ذو الأجر اليومي محل علاقات "المحاصصة" أو "الشراكة".
وجرت عمليات تطور رأسمالية مماثلة في جنوب الوطن، مع تطور نحو الاقتصاد الاشتراكي عقب الاستقلال، وبات الوضع الاقتصادي متماثلاً وموحداً في جنوب البلاد وشمالها بعد تحقيق الوحدة 1990.

قانون القيمة
سأنطلق في هذه المقالة من المغزى الهام الذي تحدث عنه المهندس الزراعي عبدالسلام مطهر، من واقع الميدان في الجوف، بقوله: "إن نجاح الزراعة واستمرارها والتوسع فيها يرتكز بشكل أساس على عملية الرِّبح، أكان ذلك لدى المُزارع في حقوله الخاصة أو لدى المستثمرين في المزارع الكبيرة".
إن ما تحدث عنه المهندس مطهر هو بشكل دقيق "قانون القيمة"، الذي اكتشفه عالم الاقتصاد كارل ماركس، في بحثه عن طبيعة النظام الرأسمالي. بات هذا القانون حقيقة واقعية في اليمن من بعد ثورة 26 سبتمبر والارتقاء من الاقتصاد القديم إلى الاقتصاد الحديث، وعلى هذا القانون يتوقف تطور الاقتصاد اليمني، والإنتاج الزراعي والصناعي في آن.
قانون القيمة من أعظم الاكتشافات الاقتصادية في القرن التاسع عشر، وهو على سبيل المثال يفسر لماذا يفضل المزارع اليمني زراعة القات على زراعة الحبوب، ولماذا يفضل الرأسمالي اليمني استيراد القمح من الخارج لا زراعته في الداخل.
أبدى اهتماماً خاصاً بدراسة القانون في العصر الراهن المفكر الاقتصادي المصري د. سمير أمين، في كتابيه: "قانون القيمة والمادية التاريخية" (ترجمة: صلاح داغر، دار الحداثة، بيروت، 1981)، و"نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية" (ترجمة: مجدي عبد الهادي، صفصافة للنشر، 2019).
شدد سمير أمين على دراسة حركة القانون على الصعيد العالمي، وبالتالي دراسة العمليات الاقتصادية التي خلقت اقتصاد التبعية الاستعماري، والتفاوت على الصعيد العالمي، بين دول الشمال الغنية، وشعوب الجنوب الفقيرة في العالم.

ملخص القانون:
-"إن المنتجات عندما تكون على شكل بضائع تملك قيمة، وإن هذه القيمة يمكن قياسها، وإن مقياسها هو كمية العمل المجرد اللازم اجتماعياً لإنتاجها".
-"إن البضائع تُتبادل وفقاً لقيمتها النسبية".
-"العمل المباشر هو عمل راهن، بينما العمل غير المباشر هو عمل سابق، متبلّر في وسائل الإنتاج" (سمير أمين: قانون القيمة والمادية التاريخية، ص 11).
هذا يعني واقعياً أن للقيمة قيمتين: اجتماعية أساسية (قيمة جهد إنتاجها)، وتبادلية (في السوق)، والذي يلعب دوراً في تثمينها هو آلية العرض والطلب.
آلية العرض والطلب لا تخلق قيمة؛ ولكنها إما تقلل من قيمة المنتج الاجتماعية أو تضاعفها، ففي كل الأحوال العمل هو المنتج الوحيد للقيمة، مهما عبث بها السوق.
أي: تنشأ أسعار الإنتاج واقعياً من تحقق "قانون القيمة" من جهة، وقانون "تزاحم الرساميل" من جهة ثانية.
وبمقتضى هذا القانون يجري تبادل السلع وفقاً لما أنفق على إنتاجها من العمل المجرد الضروري اجتماعياً، وهو أمر يجبر المنتجين على الانتباه كي لا تتجاوز نفقات عملهم النفقات الضرورية اجتماعياً.
في بلادنا على سبيل المثال ومع تخلف قوى الإنتاج (تخلف ظروف حياة العامل وصحته وتخلف وسائل الإنتاج وتراجع المعرفة العلمية وإسهامها في الزراعة) إلى جانب احتكار المياه وغلاء الديزل وغيرها من المعوقات، هذا الأمر يجعل المزارع اليمني ينفق جهد عمل اجتماعي ورأسمالا كبيراً جداً من أجل إنتاج طن واحد من الحبوب، فيما تطور "قوى الإنتاج" في الدول المتطورة يقلل الجهود المبذولة لإنتاج الكمية ذاتها من المنتح.
وعند التبادل يأتي طن الحبوب اليمني محملاً جهد عمل ورأس مال كبيراً، وبالتالي قيمة كبيرة، فلا يستطيع المواطن شراءه، فيما الحبوب المستوردة ونتيجة للإنتاجية العالية التكنولوجية فهي تحمل جهد عمل اجتماعي أقل، فتنافس الحبوب المحلية في السعر، وتطيح بها.
وهو ما أشار له المهندس المطهر بقوله: "محصول القمح هو محصول استراتيجي، ولن ننجح ونتوسع فيه إلا بالرِّبح. والرِّبح لن يأتي إلا بالميكنة الزراعية والبذور المُحسَّنة التي يتم تصفيتها وتنقيتها تحت إشراف هندسي، فإذا لم توفر الجهات المختصة للمُزارع ميكنة زراعية، فلا ينبغي أن تحثهم على التوسع في الزراعة؛ لأنه سيكون خاسراً، وسيتوقف من أول موسم".
يدرك المزارع اليمني بالتجربة أن جهد العمل الذي يبذله على شجرة القات مثلاً ينتج قيمة عند البيع أكبر من الجهد الذي يبذله على شجرة التفاح، لهذا لا يبدد جهده على أشجار تثمر موسميا، كالبن والقمح والتفاح، بل على شجرة تثمر يوميا كالقات.
والبرجوازي اليمني يدرك أيضا بهذه التجربة أن استيراد سلع أجنبية جاهزة وبيعها يحقق له ربحاً أكبر من ربح إنتاج السلع في البلد.
قضية قمح الجوف ما هي إلا تجربة، وعينة تدل على الوضع الزراعي عموماً. ومع تطور الاقتصاد في بلادنا -مقارنة بما كان عليه قبل نصف قرن- بات كل الإنتاج خاضعا لقانون القيمة (مفهوم: ما فيش خراج). هذا المفهوم الشعبي أيضاً هو تعبير عن سريان هذا القانون في الحياة، وبالتالي ومع تفاوت تطور قوى الإنتاج في بلادنا عن غيرها، فهذا يعني أن التراجع الاقتصادي سيظل هو الحاكم لمستقبل بلادنا. والحل هو تطوير قوى الإنتاج واعتماد التخطيط الاقتصادي الحكومي، والاهتمام بالمدخلات الزراعية، والإنفاق السخي على الأبحاث العلمية الزراعية، وتوفير مصانع ومراكز تسويق تحمي جهد عمل الفلاحين من الاندثار في الموسم: "البورة" كما في التعبير الشعبي.
وهذه المهام لا ريب بحاجة إلى السلام والسيادة الوطنية والوحدة الشعبية والجغرافية في آن.

أترك تعليقاً

التعليقات