الجمهورية الجديدة التي نريد
- أنس القاضي الأثنين , 3 أكـتـوبـر , 2022 الساعة 2:14:17 AM
- 0 تعليقات
أنس القاضي / لا ميديا -
بالتزامن مع مناسبة العيد الـ60 لثورة السادس والعشرين من سبتمبر، ظهرت حالة جدل وتعصبات بين مؤيد ومعارض، وكانت السمة الرئيسة لخطابهم لا تاريخيته ولا علميته أي عدم انطلاقه من الظروف التاريخية التي سادت، بل من المزاج والعاطفة، فما أساس هذه الثورة الاجتماعي هل كانت ضرورة أم مصادفة، لماذا جاءت، وكيف تعثرت، ما هي المنطلقات النظرية والسياسية الأولى لها، وما هي الجمهورية الجديدة التي نريدها اليوم؟
في البداية من المهم التأكيد على أن أهم مكسب لثورة 26 سبتمبر، إسقاط حكم الفرد، والتحول من النظام الملكي إلى الجمهوري، القيادة الجماعية نظام عرفته اليمن منذ القدم (الأزواد، الشورى) المتناسبة مع التطور الاجتماعي في ذلك التاريخ المعين، واستمرت هذه التقاليد في وسط القبائل التي تنتخب وتعزل شيوخها، فالقيادة الجماعية وإتاحة الفرص ومبدأ حكم الشعب تعطي المجتمع والبلد إمكانات أكبر للتطور، وقد حرم الشعب من هذا الحق في ظل الجمهورية الموالية للمملكة السعودية، ثورة 26 سبتمبر تجربة تاريخية تعثرت وليست النهاية، أما قضايا الجمهورية المختلفة الأهداف الستة فمازالت قضايا نضالية لكل اليمنيين، و21 أيلول/ سبتمبر هي امتداد لهذا التاريخ النضالي.
إن نقد التجربة الجمهورية لهو أمر مهم من أجل مستقبلنا فبرغم أن تجربة 60 عاما حققت منجزات في البنية التحتية حيث ظهرت أشكال وهياكل مؤسسية وسياسية، إلا أن قضايا هامة مازال التقدم فيها محدوداً، كالسيادة الوطنية والدولة المركزية، بالإضافة إلى التصنيع، الزراعة، العلوم الحديثة، العدالة الاجتماعية، وانتخاب وتغيير السلطة.
التناقضات التي ولدت ثورة 26 سبتمبر
تأسست الدولة اليمنية الوطنية المستقلة "اليمن المتوكلية" مطلع القرن الـ20، في مرحلة تراجع الاقتصاد الزراعي والمجتمعات المشتتة، وتوجه البلد نحو المركزية، واستقلال اليمن وظهورها دوليا، ونمو شرائح تجارية وفئات حديثة؛ وقد كان ظهور الإخوان "الوزير"، الناصريين، القوميين، الاستقطاب الأمريكي السوفيتي دليل ذلك.
فسبب الثورة ليس فقط تخلف البلد، فلو ظل التخلف كما هو ما وقعت الثورة، بل نتيجة عملية التحديث التي جرت في عهد الإمام أحمد، وبخاصة حين كان محمد البدر ولياً للعهد، عمليات التحديث، خصوصاً في الخمسينيات، خلقت ظروفا جديدة، العلاقات الدولية، البعثات العسكرية، صفقة السلاح السوفيتية، شق الطرقات، الميناء، المصانع، عودة المهاجرين، ظهور شرائح تجارية، الصحافة، الأدب، المدارس، تشكل أحزاب ونقابات، كل هذا منتج التحديث وسبب الثورة، فالتحديث في البنية الاجتماعية الاقتصادية المعرفية يخلق قوى اجتماعية جديدة ترفض الحكم السائد إذا كان يتصادم مع مصالحها وطموحاتها.
استنفدت الملكية في اليمن شروطها التاريخية، وكان لا بد من تجاوزها نحو الجمهورية، فكان ظهور الإخوان، بيت الوزير، الناصريين، القوميين، هذه المعارضة التي أطاحت باليمن المتوكلية لم تكن موجودة عام 1918 حين تأسست المملكة، هذه القوى كانت انعكاسا لظهور فئات اجتماعية جديدة تريد المشاركة في السلطة والثروة، وإلى جانبهم المنافسون من المشايخ "ملوك قبائلهم"، كان التحديث ينبذ شكل الحكم، كل خطوة إلى التطور كانت تقضي على إمكانية استمرار الحكم الملكي، الإمام من هيأ للثورة!
ومما لا يذكر عادة أن جزءا من أسرة الإمام يحيى كان مع المعارضة، البعض التحق بالإخوان إلى عدن والبعض أعدموا. وجزء كبير من الضباط الأحرار هم ممن يصنفون "هاشمية وزيدية"؛ فالأزمة السياسية الاجتماعية كانت قد انتقلت إلى قلب نظام والحكم، جاءت ثورة 26 سبتمبر بعد عدة انقلابات وليست من خارج التاريخ.
طبيعة الثورة الجمهورية وتجربة 26 سبتمبر
الثورات الجمهورية في التجربة التاريخية العالمية، في كل الدول التي انتقلت من الملكية إلى الجمهورية، ومن الملكية إلى الملكية الدستورية، هي اجتماعيا ثورة فلاحية وبرجوازية ضد "الإقطاع" عليها توزيع أراضي كبار الملاك والأسرة الحاكمة على الفلاحين، وهي ثورة ديمقراطية ضد الملكية ويبنى على ذلك تشكيل برلمان منتخب وإقرار دستور وعلنية النشاط الحزبي.
باستثناء الدستور، فإن بقية الشروط الضرورية التي بناءً عليها تكون الثورة الجمهورية ناجزة لم تحدث، بل حدث العكس؛ فقد جرى في ثورة 26 سبتمبر أغرب "إصلاح زراعي" في التاريخ! ففي العموم، أخذوا أراضي بيت حميد الدين والأسر المقربة منهم، وأعادوا توزيعها، لا على المحرومين، بل على المشايخ وأشباه الإقطاع! لهذا تنامى نفوذ المشايخ وظل الريف مستعبدا، فقاتل ضد حكام الجمهورية الزائفة في صنعاء مع الجبهة الوطنية الديمقراطية، ثم مجدداً في 21 أيلول/ سبتمبر 2014 مع الأنصار.
كان القائد الوطني عبدالله باذيب قد تنبه لذلك مبكراً، إذ كتب بعد عام من الثورة في 1963، وتأخذ كتابات باذيب أهميتها من حيث كونها وثائق تاريخية كتبت في أعوام الثورة ومن حيث كون باذيب مفكرا وطنيا ثوريا تقدميا وسياسيا متابعا للنشاط الثوري المعارض للحكم الملكي من الأربعينيات وناقدا له من حينها.
يقول باذيب: "انهيار النظام الإمامي الملكي في سبتمبر لم يغير من حيث الجوهر طبيعة الصراع الذي كانت تستلزمه ظروف ما قبل الثورة وتحدده مهام الحركة الوطنية، فقد ظل الصراع بعد الثورة كما كان قبلها صراعا بين الشعب بجميع طبقاته وفئاته الاجتماعية الوطنية وبين أعدائها الأساسيين: الاستعمار والإقطاع وعملائهما. هؤلاء الأعداء الذين يحاولون الآن وبعد فشل العدوان الخارجي وضع العصي في عجلة الثورة لتعويق تقدمها وتخريبها من الداخل وإجهاض وخنق أجنتها الثلاثة: الثورة الزراعية والثورة الصناعية والثورة الثقافية وهي لاتزال في رحم أمها ثورة 26 سبتمبر".
وفي ذلك العام أيضاً أطلق مناشدة ثورية: "نناشد حكومة الثورة والمخلصين فيها ألا يستمعوا إلى إرشادات ونصائح الرجعيين وأن يقفوا بحزم ضد جميع المواقف الخاطئة التي من شأنها أن تنشر عدم الثقة وتشيع خيبة الأمل بين الجماهير وأن يمضوا بشجاعة في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي ينشدها الشعب".
ومع تدهور وضع الثورة وعدم تحقق الثورة الزراعية والصناعية والثقافية، كتب باذيب بعد أربع سنوات من الثورة، مشخصاً في الخطأ الذي وقعت فيه قائلاً: "لقد ظل المشايخ مصدر مشاكل ومتاعب للثورة منذ قيامها حتى اليوم وينبغي القول إن ذلك يرجع إلى أن الرجال الذين فجروا ثورة 26 سبتمبر كانت تعوزهم الرؤية الكاملة والوضوح الفكري. ولم يكونوا يملكون برنامجا واضحا محددا. وقد قاد هذا الأمر إلى سلسلة من الأخطاء. فهم لم يعملوا شيئا لضرب وتغيير العلاقات الإقطاعية والعشائرية التي يستمد منها المشايخ نفوذهم وقوتهم. ولم يقوموا بتحقيق أي تدابير عميقة في ميدان الإصلاح الزراعي تؤدي إلى مصادرة أراضي الإقطاعيين وتوزيعها على الفلاحين وتمليكها لهم.. ولم يستطيعوا أن يمضوا قدماً في ميدان البناء والتصنيع أو أنهم ساروا ببطء شديد. وكل ما فعلوه في ميدان الأرض هو مصادرة أعوانها.. وحتى هذه الأراضي ظلت تحت يد الدولة والفلاح كما كانت بين يد السيد الإقطاعي والفلاح دونما تغيير وهناك كثير من الإقطاعيين والمشايخ انقلبوا على الثورة بعد قيامها بفترة فلم تمس ملكياتهم بسوء. إن مثل هذه التدابير كانت ضرورية وواجبة. وكان من شأنها أن تؤدي إلى توسيع قواعد الحكم الشعبية وإضعاف نفوذ الإقطاعيين بمن فيهم المشايخ وتقليم أظافرهم. وهي لم تكن ضرورية فحسب بل ممكنة أيضا خصوصا في الأشهر الأولى من عمر الثورة عندما كان الحماس الثوري لدى الشعب في ذروته".
الجمهورية بين باذيب والزبيري
الجمهورية التي عرفناها هي جمهورية الزبيري والنعمان التي رفضها عبدالله باذيب ونرفضها اليوم من أجل جمهورية شعبية، "كان من أسباب رفض باذيب لشعار جمهورية الأحرار أن هؤلاء الأحرار لم يكونوا يسعون إلى إقامة جمهورية يمنية ديمقراطية مستقلة، وإنما إلى إقامة نظام إقطاعي -"كومبرادوري" تابع في شمال الوطن تحت ستار الجمهورية، يحل محل نظام الإمامة الملكي الإقطاعي المستقل سياسياً على الأقل.. لم تكن تهم باذيب التسميات التي يخلعها الأحرار على النظام الذي يسعون إلى إقامته، بقدر ما يهمه الجوهر. لم يكن يهتم بشكل النظام، بقدر ما كان يهتم بطابعه الاجتماعي -الطبقي، ووجهته السياسية، وعلاقاته الدولية، وبصورة خاصة موقف هذا النظام من الاستعمار البريطاني الذي يحتل معظم أراضي بلاده، ومن قضية القضايا لديه ولدي التيار الماركسي بأجمعه، ألا وهي قضية التحرر الوطني الكامل، والوحدة اليمنية التامة" (محمد علي الشهاري، حول الثورة والوحدة اليمنية ودور عبدالله باذيب).
إن هذه الجمهورية التابعة الشكلية فاقدة المضمون الاجتماعي هي التي حكمت للأسف، وقد كان باذيب يحذر منها منذ وقت مبكر، ففي الخمسينيات كتب مقالين عن "أزمة الأحرار"، أشار فيهما إلى هذه التوجهات الجمهورية الفاقدة المضمون الوطني المستقل وللمضمون الاجتماعي، جاء في مقاله أزمة الأحرار (2) عام 1957م:
"لقد كان الأحرار يقفون بصراحة إلى جانب دعاة الحكم الذاتي ضد الهيئات الوطنية ويتخذون من الانفصاليين أعوانا وأسيادا.. ومازال بعضهم شركاء للانفصاليين في ما يسمى المجلس الأعلى للجمعية العدنية، وفي الانقلاب البيني الأول كان محمد علي لقمان الداعية الأول للحكم الذاتي في عدن بوقا من أبواق الانقلاب. كان هم الأحرار في ذلك الوقت، وربما مازال هم الكثيرين منهم، هو تغيير الوضع في اليمن ولو على يد الشيطان! ولم يكن تغيير الوضع في مفهوم الأحرار يعني أكثر من إزالة الإمام أحمد.. لم يكونوا يفكرون في تغيير الأوضاع الرجعية هناك تغييرا جذرياً ديمقراطياً صحيحا لمصلحة الفلاحين والطبقة العاملة البينية لا لمصلحة آل الوزير أو البدر والتجار الذين يتزعمون حركة الأحرار، ولم يكونوا يؤمنون بالشعب ويعتمدون عليه في قلب الحكم الرجعي، بل كانوا يريدون تغييرا من أعلى معتمدين على البدر في الداخل وعلى القوى الأجنبية وأعوانها في الخارج وفي عدن بالذات! وكانوا يرون في الدعوة إلى مكافحة الاستعمار هنا ضربا من السخف وإشغالا لليمنيين عن مكافحة الاستبداد هناك هكذا كان رأي الأحرار.. وعلى أساسه كانوا يقفون بصراحة إلى جانب الانفصالية المتعاونة مع الاستعمار".
جمهورية باذيب لا الزبيري
إن الجمهورية التي نريدها والتي تناضل من أجلها ثورة 21 أيلول/ سبتمبر المجيدة، هي النقيض لجمهورية الزبيري والنعمان التي سادت سابقاً، نريد جمهورية ديمقراطية شعبية حرة مستقلة، موحدة، تنحاز للمواطن وتضمن سيادة البلد. فمن مهام الثورة الشعبية الراهنة تغيير الوظيفة السياسية للدولة من الدولة الخادمة لقوى الاستبداد الداخلية ودول الاستعمار الأجنبية كما كانت عليه سابقاً، إلى دولة خادمة للشعب وطبقاته المنتجة كما أكد الرئيس الشهيد صالح الصماد، وذلك بتحويلها من جهاز فوق المجتمع إلى جهاز تابع للمجتمع، وهذا يشترط أن تتحول الدولة إلى أداة ثورية تستهدف غايتها النهائية تحقيق التحولات العادلة في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية، والاهتمام الدائم برفع المستوى المعيشي والتعليمي والثقافي للشعب اليمني، لأنه وفي الواقع التاريخي والتجربة التاريخية لا تنتصر الثورة بمجرد تشكيل حكومة ثورية مع الإبقاء على جهاز الدولة كما كان سابقاً قبل الثورة بدون هدم الجوانب التنظيمية والتشريعية والبيروقراطية القديمة في الدولة وإعادة بنائها من جديد بشكل ثوري يجعلها أكثر ملاءمة لخدمة الشعب.
كانت النخب الحاكمة وعبر الدولة اليمنية تمارس مختلف أشكال الاحتيال والقمع من أجل منع الشعب وغالبية الجماهير الكادحة من إدارة الدولة وممارسة السلطة، فكانت عملية إدارة الدولة ووضع القوانين تخضع مباشرة للنخبة الحاكمة وليس للجماهير التي انتخبت النواب بل لم تكن تخضع للنواب أنفسهم (رغم أن تركيبتهم الاجتماعية ليست كادحة على الأغلب ورغم أنهم يعبرون عن مصالح المترفين والطفيليين، ورغم أن الانتخابات كانت تشوبها عمليات الفساد والتزوير)، كان الشكل البرلماني أكبر خدعة ديمقراطية في بلادنا، وهذا لا يعني أن الخطأ يكمن في ممارسة الشعب للسلطة وانتخاب من ينوب عنه في البرلمان ويمثل مصالحه، بل في تمثيل المؤسسة البرلمانية مصالح المترفين والانفصال التام بين النواب وبين الجماهير التي انتخبتهم وعدم خضوعهم لها في نقاش القوانين وفي المساءلة والعزل، وتحول النوب إلى شريحة صاحبة امتيازات مالية وخدمية تلهث خلفها بدون مراعاة أوضاع الجماهير الشعبية التي انتخبتها.
من أجل تجاوز مشكلة الديمقراطية الشكلية السابقة، يجب أن يكون هناك منظمات جماهيرية يعبر فيها المنتجون والكادحون والمستضعفون مباشرة عن مصالحهم ويشاركون في إدارة الدولة وممارسة السلطة، ولا يحصر هذا الحق الدستوري "الشعب مالك السلطة" على نواب البرلمان وأعضاء المجالس المحلية، وهو ما يتطلب التوجه نحو الشكل الديمقراطي الشعبي؛ فمن مهام الثورة تأكيد وتعزيز الديمقراطية في مضمونها الشعبي التي تبرز كاحتياج اجتماعي وهي الديمقراطية التي كانت غائبة طوال الفترة الماضية التي اتسمت شكلياً بالممارسة الانتخابية التي رعتها أمريكا والاتحاد الأوروبي.
السبيل لإشاعة الديمقراطية الشعبية يكون بدعم القوى المنتجة من الفلاحين والعُمّال والصيادين والفنيين وأصحاب المهن المختلفة والأسر المنتجة، في تشكيل منظمات جماهيرية من نقابات واتحادات وجمعيات لها استقلال كامل عن سلطة الدولة والأحزاب السياسية، لتعبر عبرها هذه الفئات المنتجة عن مصالحها الاقتصادية المباشرة ومواقفها من السياسة الوطنية عموماً، ويتم تمثيل نقابات وجمعيات المنتجين الأساسيين في مواقع صنع القرار والسياسات العامة، وهذه المنظمات الجماهيرية المطلوبة مختلفة عن الجمعيات التعاونية الإنتاجية، فالمقصود أن يكون هناك مشاركة سياسية لهذه الفئات المنتجة لتشارك في صنع سياسة الدولة بما يلبي مصالحها فطوال الفترة الماضية كانت العملية الديمقراطية السياسية الشكلية في الانتخابات المحلية والبرلمانية والرئاسية معبرة عن مصالح الطبقات والفئات الطفيلية.
المصدر أنس القاضي
زيارة جميع مقالات: أنس القاضي