أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -

تخلد قصيدة «نقشة الحناء» مجزرة عرس سنبان، التي كان لها تأثير خاص على الشاعر أمين الجوفي، وقد استطاع أن يُعلي من رمزيتها، ويصور مختلف التفاعلات العاطفية للعروس والطبيعة والمجتمع والعريس تصويراً جمالياً إبداعياً، يجعل من المستمع أو القارئ مشاركا في النزيف وفي حمل ركام الحزن والنضال. كما استطاع أن يُعبر عن الموقف العام والكل الاجتماعي اليمني، من خلال التعبير عن الموقف الخاص والجزئي للشخوص الرئيسية في هذه القصيدة.
تتكون القصيدة، وهي شعبية، من 68 بيتاً، موحدة المضمون، وتتوزع عليها موضوعات ومشاهد مختلفة، كمشهد صراع المتناقضات: الحياة والموت، تحت الأنقاض، والمشهد العام فوق الأنقاض، والتفاعلات الشعورية للعريس، وللطبيعة، ولمن ينتشلون الضحايا، وصولاً إلى مشهد التحاق العريس بالجبهة وصور من المعركة، وكأنها قصة أو رواية كتبت شِعراً، فموضوع القصيدة (جريمة مجزرة عرس سنبان) موضوع مؤثر وملهم بشكل كبير على نفسية الفنان كشاعر أو رسام أو روائي، الذي لا يتقبلها كخبر صحفي إنما كمعطى وجداني، يرى ما خلف الركام والأجساد من مشاعر وحكايات، وأحلام وأشواق، واتقادات وجدانية عميقة.

الصورة الفنية في القصيدة
تعيد الصورة الفنية الواقعية الصادقة في هذه القصيدة إنتاج الحياة اليمنية بكل تعقيداتها، فإذا ما تذوقها أحد من خارج واقعنا اليمني أو مستقبلاً، بعد أن نغادر هذه المرحلة، فسوف يكون قادراً على أن يُلامس ما نعايشه حاليا، فالصور الجمالية في هذه القصيدة عكست العام، كما أضاءت وركزت على ما قد يبدو خاصاً وعشوائياً لا ينتبه إليه أحد.
وبالرغم من أن الصورة الجمالية نتاج التجريد الذهني، وصور مثالية في الدماغ، إلا أن هذه الصور اتخذت شكل الواقع، وعكسته بكل جوانبه ووجوهه وخصائصه وميزاته وصفاته المختلفة. فهذه القصيدة تعكس الواقع اليمني العام من خلال تناولها الواقع الخاص في ظاهرة ارتكاب تحالف العدوان مجزرة، وتأثير هذه المجزرة على من لهم علاقة مباشرة بالضحايا، وعلى المجتمع المحيط بهم، فالواقع اليمني هو رسمة صغيرة في هذه القصيدة.
إن السمة المميزة للصورة الأدبية، التي تجعلها تختلف عن الصورة الفوتوغرافية، هي أن الصورة الفنية الأدبية تستثني سمات معينة للموضوع، وتقدم سمات جديدة لا يُلتفت إليها، فلا تصبح نقلاً ميكانيكياً، والشاعر المبدع كما الفنان التشكيلي المبدع، هو الذي يستطيع أن يُحدد أي السمات يجب التركيز عليها في الموضوع. وكلما كانت مُخيلة الفنان خصبة استطاع أن يكون إبداعه أكثر عمقاً. فالتصوير الفني الأدبي للظواهر يصورها مع نفاذ عميق إلى الجوهر، ولا يقف عند حدود الظاهر محاكياً ومقلداً الواقع، كما كانت تنظر الفلسفات القديمة إلى الفن.
وعلى سبيل المثال استطاع الشاعر أمين الجوفي في هذه القصيدة أن يرى تسابق الدم والحناء في جسد العروس، وتزاحم رائحة البخور مع رائحة البارود تحت الأنقاض، وهذه السمات في جريمة عرس ذمار لا يستطيع المصور الفوتوغرافي أن يلتقطها، فيما تجاهل حديد المبنى، وعادة ما يقوم حديد البناء بتقطيع وتشويه الصورة الفوتوغرافية لمشهد الركام.
إن ميزة الصورة الفنية الأدبية عموماً، وميزة الصورة في هذه القصيدة خصوصاً، أن الشاعر يستطع أن ينقل العام من خلال الخاص، وتتوقف جمالية الصورة عند هذه النقطة فالصورة التي لا تستطيع نقل العام تكف عن كونها صورة فنية وتصبح هلوسات ذاتية شخصية تشبه الخربشات واللطخات اللونية العشوائية غير المتناسقة التي تُباع كلوحات تشكيلية. إن الصورة الفنية الحقة هي جوهر الفن الحقيقي، وإن تدهور الفن هو أولا وأخيراً انحلال الصورة الفنية. وهذا الموقف من الصورة الجمالية في الفن هو ما يميز المدرسة النقدية الواقعية الاشتراكية عن سائر المدارس النقدية الأخرى.

مطلع القصيدة
الأبيات الأولى اعتيادية. مقدمة تحكي العمليات السابقة لإنتاج القصيدة في استحضار الهواجس. ومثل هذه المقدمات شائعة في الشعر النبطي والحميني، وكأنها من بقايا مقدمات الشعر الجاهلي في الوقوف على الأطلال. ومن حيث المضمون الجمالي فهي لا تحمل مضامين جمالية، فأكثرها إنشائية سردية كمقدمة حكاية. كما استخدم الشاعر فيها صوراً وتعابير معهودة ومألوفة، مثل أن الليل خيمة وظهور الصباح، ونعيق الغراب دلالة على التطير والتشاؤم، وربما يكون التعبير الجديد هو تدثره بالقلق من شدة الذعر والخوف، فالخائف والمذعور الوحيد كل ما حوله يزيده قلقاً.
«عــلـى تـراتـيـل نـفـحـات الـضـحى والـفـلقْ  
فــزّيـت وانــه يـذكّـرهم بــرصّ الـصـفوفْ
وضّــيــت روح الـمـشـاعر بــعـد لـيـلـة أرقْ  
صـوت «اف سـتعش» واصوات الطرب والدفوفْ
الـلـيـل عــطّـف خـيـامه والـصـباح انـفـلقْ  
وهـاجسي حـول مـحراب القصيدة يطوفْ
خـرجـت والـبـين فــي ذهـني غـرابه نـعقْ  
مـا بـين صــوت الـنوايح واصـطفاق الـكفوفْ
هــرعـت مــذعـور مـتـلـحّف شـعـور الـقـلقْ  
وصـلت والـناس حـول انـقاض واشلا وقوفْ
مـن هـول مـنظر رعـاف الـدم وقـت الشفقْ  
شـمس الـوجيه الـمشعة مـعتريها الكسوفْ».
في البيت الأخير تداخل عاطفي بين الإنسان والطبيعة، فالشمس أبدت تفاعلها العاطفي إزاء المجزرة، فانكسفت حزناً وهي المُشرقة عادةً. ويُمكن القول بأن جمالية القصيدة بدأت من هذا البيت تحديداً.

صراع الدم والحِناء
«الــــدار بــادواره الـعـلـيا جــثـم وانـطـبـقْ 
عـلـى الـعروسة ونـسوان الـعرس والـضيوفْ».
في هذا البيت تصوير لعملية انهيار المنزل فوق الضحايا، وقد أحسن الشاعر في اختيار مفردة «جثم»، فهذه المفردة تستخدم عادة في حال جثوم شيء على صدر إنسان وأعاق تنفسه وبقاء الإنسان حيا رغم ذلك، وتلا الجثوم عملية انطباق طوابق المنزل فوق ساكنيه، وفي مقدمتهم العروس، حيث إنها موضوع الاجتماع والحشد، فكان تقديمها على سائر نسوان العرس والضيوف تقديماً موفقاً.
فجأة ينزل الشاعر بذهن المتلقي إلى تحت الركام، أو تزول الحُجب الكثيفة للركام ليرى القارئ والسامع ماذا يحدث في الاسفل:
«تــسـابـق الــــدم والــحـنـا عـلـيـهـا ســبــقْ 
واتـزاحـم الـعـود والـبـارود تـحت الـسقوفْ».
فإذا بالقارئ أو السامع يشاهد ميدان سباق، حيث يتسابق الدم والحِناء في جسد العروس، فرغم واحدية اللون في الصورة؛ الدم والحِناء، إلا أن المغزى مختلف، فاحمرار الدم يدل على الموت، فيما احمرار الحناء يُشير إلى الحياة. وكذلك تناقض الروائح بين عود البخور مع رائحة البارود. إن هذا السباق الجدلي بن المتناقضات الذي يُصوره الشاعر (سباق الدم والحناء) يُصور لنا تلك المراحل الأخيرة من حياة العروس وهي تنازع بين الموت والحياة، فظفر بها الموت.
ويلتقط الشاعر التفاصيل الصغيرة في مَشهد الموت الذي أنهى حياة كانت تفاصيلها هي العامة والسائدة:
«فـسـتـانـها والــجـواهـر والــحـلـي والــحـلـقْ
 وعـطـرهـا والـمـشـاقر دانــيـات الـقـطـوفْ
وفـرحـة الـعـمر والـحـلم الـجميل احـترقْ 
 بـنـار شـيـطان مـا كـبده عـلـى حــد تـروفْ».
فستان العروس، جواهرها، حليها، عطرها، المشاقر المفعمة بالحياة وكأنها فوق شجرتها الأم، حيث ترى «المشاقر» على العروس دانية القطوف، مفعمة بالحياة كل تفاصيل الجسد الأنثوي والحياة العامرة في المنزل قُتلت وزُهقت معها روح الحياة، فروح الحياة هي فرحة العمر والحلم الجميل، وقد اعتاد اليمنيون أن يجعلوا من يوم العرس يوماً بالعمر كله.
وإذا كانت الحياة الحسية في الجسد قُتلت وتسابق عليه الحناء والدم فإن نهاية الحُلم مضمون الحياة كانت مختلفة، فقد احترق، فالحلم غير المحسوس أكثر الصور الحسية قربا وملاءمة له هي الاحتراق، وكان الشاعر موفقاً في ذلك.
وهذه النيران التي أحرقت حلم العروسة وفرحة عمرها، لم تتعاطف مع العروس كما تعاطفت الشمس وانكسفت. وينفي الشاعر أن تكون نار الطبيعة أو ناراً إنسانية، فهي نار شيطانية مصدرها قوى تملكتها النزعة الشيطانية التي لا ترأف بأحد، وهذه القوى هي دول تحالف العدوان على اليمن.

ركام الحزن على قلوب وأكتاف الرجال
من تحت الأنقاض وميدان سباق الحياة والموت ومشهد كواليس الجريمة، وهي العناصر الخاصة بالفردي «العروس»، ينتقل الشاعر إلى العام، فهو ليس حزناً مخصوصاً للعروس ذاتها، ولا لأُسرتها، بل وحزن اليمن وحالها، فالمجتمع الخاص الذي وقعت عليه الجريمة هو الجزء من الكل اليمني، حيث تحدث مجازر أخرى في مختلف مناطق اليمن، تحمل الأحزان والتفاعلات الاجتماعية ذاتها.
«تـجـمـهـر الــحــي كــلاتــه وشــكّــل فــــرقْ  كـلين ياخذ مـن ركـام الـحزن حـمل الكتوفْ».
يصور الشاعر انفعال وسلوك مجتمع العروس، فالجميع تجمهر، وكان حشد من له موقف، لا تجمهر المتفرج الفضولي، فلا يكاد يجتمع الحي حتى يقسموا العمل فيما بينهم، وينخرط الجميع في المشهد/ النشاط/ القضية، فكل مواطن اندفع يحمل ما يستطيع من ركام الحزن، فلا يبدو أنه يحمل تراباً عادياً وينتشل ما تحته من أشلاء، بل يأخذه كركام حزن، فهو جهد عضلي وروحي وجداني، وهي صورة مفتوحة أمام القارئ والسامع، فحمل ركام الحزن جزء من مهمة انتشال الجثامين والبحث عمَّن لا يزال حياً، في مشهد تآلف أخوي وتعاون اجتماعي يمني عام يتكرر مع كل مجزرة لتحالف العدوان. واستطاع الشاعر بشكل فريد أن يُصوره ويخلده في البيتين كما لم يستطع أي فنان تشكيلي أو مصور.
يواصل الشاعر نقل الصورة، مظهراً نوعية التفاعل الاجتماعي مع هذه القضية.
«بـيـن الـرماد اخـتلط سـيل الـدما والـعَرَقْ 
 جـبـال الاسـمـنت واشـلاء الـبشر والـرفوفْ».
فإذا عَرَق المنقذين يوازي دماء الضحايا، ويتحد العرق والدم في وحدة موضوعية هي وحدة القضية والشعور العاطفي، فالعرق ليس مجرد جهد عضلي، بل هو جهد روحي للمثقلين بالحزن من الأهالي، وثقل ركام الحزن غير صغير، فهو من حيث إحساس المجتمع جبال من الإسمنت. في ظاهر البيت مبالغة شعرية من الشاعر بتصوير الركام جبلاً، لكن باطن المعنى ينسجم تماماً، فالمنقذون الذين يحملون الركام على أكتافهم كانوا يحملون جبلاً من الاسمنت.
والمبالغة في الفن والأدب ليست ممكنة فقط، وإنما طبيعية ومهمة، عندما تفيد كوسيلة لإعطاء انعكاس حقيقي للواقع يعزز التأثير العاطفي للصورة الفنية. فالجبال هي من الاسمنت الموجود موضوعيا واقعياً في مسرح الجريمة، واستخدمه الشاعر من أجل تعزيز التأثير العاطفي على المتلقي، الذي هو نفسه التفاعل العاطفي لمن يحملون الركام. فالشاعر في هذه الصورة يقوم بإشراك المستمع والقارئ في عملية حمل ثقل ركام الحزن على كتفيه في هذا المشهد من حمل الحزن ورفع الركام وإهراق العرق والحزن. هذه التفاعلات العاطفية الاجتماعية الذاتية تفاعلت معها السماء والطبيعة، فإذا:
 «غـمـامـة الــحـزن تــرعـد والأمــل مـا بـرقْ  
والأفــئــدة مـزّقـتـهـا مـرهـفـات الـسـيـوفْ».
ألمت بالمنقذين غمامة من الحزن في سماء الشمس فيها منكسفة. وسط هذا الظلام والحزن تحضر رعود غمامة الحزن، ولكن دون أن تلمع بروق المطر والأمل، وأفئدة الجميع ممزقة كأنها مُزقت بالسيوف المرهفة، وذلك من شدة التوجع ودوي الرعود وحمل أثقال من الحزن وكأن تلك الأثقال لم تكن فقط محمولة على الأكتاف بل وعلى القلوب أيضاً.
استخدم الشاعر الصورة هنا بشكل جمالي فيه معاناة، فالصورة الفنية الأدبية هي جمالية في طبيعتها، ذات طبيعة عاطفية دائماً، فالصورة تحرك مشاعرنا وتمنحنا بهجة جمالية أو حزناً، وتروق ليس فقط لعقولنا ولعواطفنا أيضاً. أما الصورة التي لا تروق للعواطف فليست صورة فنية.

العريس الفارس
ينتقل الشاعر إلى التعبير عن الانفعال العاطفي لدى العريس الناجي، فهو الضحية الثانية في هذه الجريمة.
إن الفرح والحلم الذي احترق بموت العروس تلاشى من قلب العريس العاشق، وتلاشيه يصور هذا الفرح وكأنه لم يكن قد ارتسم في قلب العريس ووجدانه. وعقب هذا التلاشي جاء انغلاق أبواب الأمل في وجه العريس، الذي تحول نوره حالكاً كالغسق، فإذا هذا النور والنهار يُسرق من أمام عينيه ويتبدد، وهو يشهد هذا التلاشي كمن يَشهد مصرع الشمس، فأحلامه التي كانت مشرقة متلألئة انطفأت، ودل على انطفائها أن جروحه قامت تصلي صلاة الكسوف على أحلامه، إلا أن صلاة الكسوف ليست كصلاة الجنازة، فصلاة الكسوف تُبطن وجود بصيص أمل في عودة الضوء إلى حياة العريس العاشق، وهو الضوء الذي سوف يُوقده العاشق ويسعى له.
«تــلاشـت افـــراح لـيـل الـبـارحة واصـطـفق
 بـاب الأمـل والـفرح فـي وجـه زوج الهنوفْ
نــهـاره اطـبـق ظـلامـه مـثـل لـيـل الـغـسقْ واتـبـدد الـنـور مــن عـينه وعـينه تـشوفْ
لـيـلة ســرق فـاتـحة روحــه كـبير الـسرقْ 
صلّت جروحه على احلامه صلاة الخسوفْ».
ينتقل الشاعر إلى جو آخر يحمل الانفعال العاطفي ذاته، لكن تمظهر هذا الانفعال العاطفي وشكله يختلف، فالحزن هنا هو حزن العريس، ويأخذ شكل حمية ورغبة في الثأر والانتقام ممن ارتكبوا الجريمة. هذا الشعور هو بصيص الأمل والضوء الذي سيسعى العاشق إلى إشعاله حتى تضيء البلاد برمتها. فالعاشق هنا هو الخاص، إلا أنه يُعبر عن العام، أي الشعب اليمني. والصلاة التي قامت بها جراحه ترمز إلى الروح الإيمانية المقاومة لدى الشعب اليمني، التي تنقذه من ظلمة العدوان كُلما حَلُكت.
«قــبـل الــعـزا فــزّ وابــرز بـنـدقه وانـطـلقْ 
لـبـس حــزام الـكـرامة والـتحق بـالزحوفْ
وعـــاهـــد الله لـــــو مــا بــاقـي الا رمـــــقْ 
مـا عـذر مـا يـسقي الـعدوان كأس الـحتوفْ».
 العاشق/ الشعب الذي انطفأت الأنوار في عينيه وأغلقت أبواب الأمل أمامه وتبدد الضوء من حوله، المواطن الذي شَهد هذه المعاناة والظروف القاسية، لم يستسلم لها، أو يتوقف عند الحزن، فترك العزاء وحمل بندقيته والتحق بصفوف المدافعين عن الوطن، معاهداً الله/ الحق/ خالق الحياة بأن يقتص ممن ظلمه، وينتزع منه الحياة. وكهذا بدت انطلاقة العاشق/ المجاهد/ المقاتل اليمني:
«ســـرى وشُــرْبـه وزاده فـــي جـيـوب الـيـلقْ 
 حـافي عـلى الشوك كنّه فوق سجاد صوفْ».
فقد تحرك ليلاً. فالسُّرى هو السير ليلاً، حاملاً معه طعامه في جيوب «اليلق». وفي هذا البيت تصوير واقعي لما يجري تاريخيا، فالشعب هو ذاته من يمول الجبهة بالطعام، وأغلب المقاتلين من أبناء الشَعب وليسوا عسكريين يرتدون «اليلق» مثل العريس، حفاة، وحفيهم هذا له أكثر من معنى، فهو حافٍ كمقاتل مع مشاة بدون دبابات وآليات كما هو حال العدو، وهو حافي القدمين يدوس بجلده ويقتحم المواقع كما ظهر في عدسات الإعلام الحربي، يدوس الأشواك والسياجات، كأن الأرض تحت قدميه سجادة من الصوف، فهو لم يفقد الإحساس بالألم، لأن الوجع هو دافعه للقتال، ولكنه سما على أوجاعه الفردية ولم يتفاعل مع وخز قدميه، بل حمل قضية أكبر تجعل الشوك تحت قدميه وكأنها سُجاد، فالذهن والقلب منشغل بما هو أسمى من الأوجاع الفردية.

وصف المعركة
ينتقل الشاعر إلى تقرير وصفي لمشهد المعركة، معدداً أسماء المواقع التي تم استهدافها، وهي صور وتعابير عميقة في ذاتها، وتسلسلها وإيقاعها يجعل السامع والقارئ يتخيل مشهد الاقتحام والتقدم والزحف، إلا أنها تعابير وصور مألوفة، سَبق أن وردت في قصائد وزوامل أُخرى، وليست صوراً بِكراً وتعابير جديدة كما في تصوير الشاعر سباق الدم والحناء في جسد العروس الضحية، أو في حمل المُنقذين ركام الحزن ملء الكتوف.
«والــنــار شــبـّـت مـنـاكـفـها رمـــاة الــحـدقْ 
أحــفـاد حـمـير رجــال الله شُــمّ الأنــوفْ
غـطّـوا «جـبـل دود» و«الـخـوبة» بـسـيل الـغرقْ
يـوم امـطرت في «ربـوعة» مـثل مزن القنوفْ
فــاضـت «نـهـوقـة» وطـوفـان «الـحـثيرة» زفــقْ 
 وشـــق واغـــرق ودقــدق دورهــا والـكـهوفْ
وفــي «الـمـهدف» وفــي «الـدخَّان» سـيله دفـقْ  
وفـي «الـمحرق» وفـي «الـمشنق» غرفها غروفْ
أبـــراج تــركـع و«الابــرامـز» الـمـدرع شـهـقْ 
 و«بــرادلـي» بـالـمـوجه طـعـفـروها شـــدوفْ
وصــوت «تـوشـكا» و«قـاهـر» فــي سـمـائه صـعقْ   
الــغـازي أول مـصـنـدق والـضـحـايا ألـــوفْ
فــي كــل خـنـدق تـمزق جـيشه الـمرتزقْ  
و«سـكـود» في الـعمق حـقـق فـكره الـفيلسوفْ»
في الأبيات الثلاثة الأخيرة أتى الشاعر بتعابير جديدة، وهي ركوع أبراج الرقابة بعد قصفها، وشهقة دبابة «الابرامز»، وصعقة صواريخ «توشكا» و«قاهر»، ففي هذه الأبيات تصاوير وتعابير جمالية ومكثفة، ومن هذه التعابير الجميلة والجديدة: «وسـكـود في الـعمق حـقـق فـكره الـفيلسوفْ»، فدقة إصابة صاروخ «سكود» وفاعليتها ليست اعتيادية، بل عميقة كعمق فكر الفيلسوف الذي ينطق بالحكمة والمقولات العميقة الدلالة بعد فترة من الصمت والتأمل، فتأتي كلماته ومقولاته محللة للواقع بشكل دقيق وملبية للحاجة المعرفية لدى الباحث أو العامل.
 
صمود الشعب وتميز اليمني
«حـلم الـتحالف على صخر الصمود اشتنقْ
 وقـــوة الــبـاس دفّـــت عـاصـفتهم دفــوفْ
مــن اكـبـر اللِّـجْـع -يــا بـدو الـخيام- اخـتنقْ  وعــرش بـلـقيس فـوق الـدرعية والـهفوفْ».
الجديد في هذه البيت هو أن حلم التحالف لم يتحطم كما هو معهود في التعابير الشعرية والخطابية، بل اشتنق. لا أستطيع الجزم بأنه استخدم مفردة اشتنق بدل تحطم من أجل ضرورة القافية إلا أنه تعبير جميل، وكان سيكون أجمل لو أن الشاعر استخدم غير الصخر لتصوير الصمود، فالشاعر أمين الجوفي قادر على ابتداع صور وتعابير جديدة لم تستخدم من قبل، وكان حرياً به أن يفعل ذلك.
وفي البيت الثاني تعبير طريف لمثل يمني مشهور، وفي هذا المثل الطريف تكمن دلالة سياسية عميقة هي الكناية التي قصدها الشاعر، أن السعودية عاجزة في ظروف الواقع عن ابتلاع اليمن، وستختنق بها، مما قد يؤدي إلى موتها، مؤكداً علو عرش بلقيس الحضاري على القصور الطارئة الطينية والإسمنتية لحكام السعودية. 
«ومَــن فـطـوره عـلـى كـبـسة سـحـوره مــرقْ  
واحـنا عـلى الـعزّ والناموس صمنا عطوفْ
وبـالـمذلق لـفـقنا الـجـرح ذي مــا الـتـفقْ  
واهــل الـخـيانات مـا سـووه بـطـن الـكـشوفْ».
في هذه الأبيات يتناول الشاعر الفوارق القيمية، ما بين اليمني الذي يصوم عن الطعام ثابتاً على مواقف السمو والحرية، مقارنة بالخليجي الاستهلاكي الذي يفطر ويمسي على الأطعمة الدسمة فيما يفتقر إلى القيم السامية. 

نهاية القصيدة
«فــي مـعـركة فـاصـلة مـا بـين بـاطـل وحـقْ  
والـنجم بـين الـظوافر رغـم كـل الـظروفْ
طـرقـت طـرقـي وهـاجـوسي بـفكره طـرقْ 
صــاغ الـقـلايد فـرايـد مـذهبات الـحروفْ. 
واهـديـتـها لـلـسـعيدة مــرفـدة فــي طـبـقْ 
مــن عـاصـمة سـام زفّـيت الـبشاير زفـوفْ
وارويـــت مـــن دمّ قـلـبي مـجـدبات الــورقْ  
يـوم اورقـت نـقشة الـحنا وهـي في الكفوفْ».
في نهاية القصيدة يتحدث الشاعر عن انفعالاته العاطفية الخاصة، التي دفعته إلى كتابة هذه القصيدة، والمتعلقة بقضية عامة بين حق وباطل، فهي ليست انفعالات وهواجس فردية وأنانية، وقد دفعته إلى أن يروي بدمه الورق المجدب، في اليوم الذي أورقت فيه نقشة الحناء في كفوف الشهيدات: العروس وقريباتها في ذلك العُرس. وكان البيت الأخير خاتمة جميلة وشاعرية.

أترك تعليقاً

التعليقات