أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -
مدخل: 
في هذا العهد يوجه الإمام علي، مالك الأشتر، عندما عينه والياً على مصر، بمجموعة من الإرشادات والتوجيهات حول سُبل الحكم العادل، وإدارة الدولة، وعلاقة الحاكم بالمحكومين، وحقوق الرعية، بمفاهيم ذلك العصر.
ويحتوي العهد أيضاً على ومضات وملامح اقتصادية، فهو يحمل بذور نظرية اقتصادية، وهو قريب من نهج الدولة في التدخل الاقتصادي والرعاية الاجتماعية، وأبعد عن مفاهيم حرية السوق التي تقرها النيوليبرالية.
تستهدف هذه القراءة إعادة فهم هذا الملمح الاقتصادي في فكر الإمام علي، من منظور اليوم مع التأكيد على أن الوضع الاقتصادي متغير والقوى المنتجة وأساليب الإنتاج وعلاقات الإنتاج متغيرة، أما الثابت فهو قيم العدل والإنصاف، ودور الدولة في الرعاية الاقتصادية والاجتماعية للسكان.

التقسيم الاجتماعي للعمل
قبل الدخول في الملمح الاقتصادي، نلقي نظرة على الرؤية الاجتماعية للإمام علي للمجتمع من حيث نشاطه الاقتصادي، وللفئات الاجتماعية، وهي بطبيعة الحال متغيرة، فلدينا اليوم فئات اجتماعية وأنشطة اقتصادية ووظائف جديدة وأوضاع طبقية جديدة، إلا أن التراتبية الاجتماعية لازالت قائمة، وقائمة على علاقة الاستغلال لا علاقة التعاون والتكامل الذي يؤكد عليه الإمام علي.

*
جاء في عهد الإمام علي لمالك الأشتر: «وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ، وَلا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ: فَمِنْهَا جُنُودُ اللهِ، وَمِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَمِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ، وَمِنْهَا عُمَّالُ الإِنْصَافِ وَالرِّفْقِ، وَمِنْهَا أَهْلُ الجِزْيَةِ وَالْخَراجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُسْلِمَةِ النَّاسِ، وَمِنْهَا التُّجَّارُ وَأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ، وَمِنهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ، وَكُلّا قَدْ سَمَّى اللهُ سَهْمَهُ، وَوَضَعَ عَلَى حَدِّهِ وَفَرِيضَتِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) عَهْداً مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً».
في هذه الفقرة، يحدد الإمام علي أن المجتمع يتكون من فئات مختلفة، كل واحدة منها تؤدي دوراً ضرورياً لاستقرار الدولة، باعتبار المجتمع منظومة متكاملة، فكل شخص حسب قدرته يعمل، وحسب كمية عمله يُعطى.
فيقول عليه السلام: «وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ، وَلا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ».
والإمام علي لا يتحدث هنا عن تراتبية طبقية قائمة على الاستغلال أو الظلم، كما في النظام الرأسمالي المتوحش، بل عن تكامل وظيفي يجعل المجتمع أكثر استقراراً.
أي أن المجتمع لا يجب أن يكون مقسماً إلى فئات متصارعة، كما في المجتمع الطبقي الرأسمالي، بل إلى فئات متكاملة، يعتمد كل منها على الآخر لضمان استمرار الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، على أساس من التعاون والعدالة لا الاستغلال.
هذا المفهوم يشبه إلى حد ما التقسيم الاجتماعي للعمل الذي تحدث عنه علماء الاقتصاد في العصر الحديث، والذي يقوم على مبدأ أن كل فرد أو مجموعة تؤدي وظيفة معينة تسهم في استقرار الدولة وتطورها.

الفرق بين التراتبية الطبقية الظالمة والتقسيم الاجتماعي للعمل
في الرأسمالية المتوحشة، الفئات الاجتماعية تكون هرمية، بحيث تستغل طبقة عليا الطبقات الأخرى لتحقيق مكاسبها، تقف البرجوازية بتعدد تصنيفاتها، في المرتبة الأعلى تستغل بقية الطبقات الاجتماعية الكادحة والمنتجة بتعدد أصنافها، أما في النموذج الذي يطرحه الإمام علي، فالتقسيم قائم على التكامل، بحيث لا يمكن لفئة أن تستغني عن الأخرى، ولا يجوز أن تستغل فئة غيرها لتحقيق الثراء على حسابها.
المجتمع المتوازن هو الذي يُراعي حقوق جميع فئاته، ويوزع الموارد والمسؤوليات بعدالة، بحيث يكون هناك انسجام بين أدوار الناس في الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

*
ثم يوضح الإمام علي هذه الفئات، ويبين دور كل واحدة منها في المجتمع، وأهمية العلاقة التكاملية بينها، يقول الإمام علي عليه السلام: «فَالْجُنُودُ -بِإِذْنِ اللهِ- حُصُونُ الرَّعِيَّةِ، وَزَيْنُ الْوُلاَةِ، وعِزُّ الدِّينِ، وَسُبُلُ الأَمْنِ، وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِهِمْ».
يضمن الجند الأمن الداخلي والخارجي، مما يسمح للمجتمع بالعمل بسلام دون خوف من الفوضى أو الاعتداءات الخارجية.
يحفظ الجند سيادة الدولة من التهديدات، ويشكل قوة رادعة تمنع أي تدخلات خارجية قد تهدد استقرار المجتمع.
يحمي الجند الحقوق والعدالة، حيث إن وجود قوة عسكرية عادلة يضمن تطبيق القوانين وعدم تعرض الناس للظلم.
لكن الإمام علي يشير أيضاً إلى أن الجيش لا يستطيع العمل وحده، بل يحتاج إلى دعم مالي وإداري يضمن استمراريته.

*
يقول الإمام: ثُمَّ لا قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلَّا بِمَا يُخْرِجُ اللهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ».
ويعني ذلك أن الجيوش تحتاج إلى موارد مالية مستقرة، تأتي من الضرائب والأنشطة الاقتصادية، لضمان تجهيزها واستمرارها في أداء مهامها. وهذا يوضح العلاقة الوثيقة بين الإدارة الاقتصادية للدولة وبين قوتها العسكرية، فبدون اقتصاد قوي، لا يمكن للجيش أن يؤدي دوره بكفاءة.
ثم يضيف الإمام أن العاملين في القضاء والإدارة مسؤولون عن ضمان العدالة، وإدارة الموارد، ومنع الفساد.. ويعتبر القضاء والإدارة العمود الفقري لأي دولة، لأنه يضمن تطبيق القوانين بعدالة، بحيث لا يتعرض أي شخص للظلم. كما يوفر نظاماً إدارياً ينظم حياة الناس ويمنع الفوضى. ويحمي الاقتصاد من التلاعب والفساد، من خلال الرقابة المالية والإدارية.

*
يقول الإمام علي: «وَلاَ قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلَّا بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ».
أي أن التجار وأصحاب المهن، هم الذين يضمنون حركة الأسواق وتنشيط التجارة، مما يساهم في تحقيق الازدهار الاقتصادي. فالصناعة والتجارة توفران الاحتياجات الأساسية للناس من السلع الاستهلاكية اليومية، مثل الطعام، الملابس، السلع، والخدمات.
فكلما ازدهرت التجارة والصناعة، ارتفع مستوى المعيشة، وانخفضت معدلات الفقر والبطالة.
لكن الإمام علي يشير إلى نقطة مهمة؛ فهذه الفئة يجب أن تلتزم بالعدل في المعاملات التجارية، حتى لا يتحول النشاط الاقتصادي إلى استغلال واحتكار.

*
يقول الإمام علي: «ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَمَعُونَتُهُمْ».
وتعني هذه العبارة أن هذه الفئة تمثل العمال البسطاء والفقراء، الذين يحتاجون إلى رعاية الدولة ودعمها، لضمان حياة كريمة لهم.
فالإمام علي لا ينظر إليهم كعبء على المجتمع، بل كجزء أساسي من النسيج الاجتماعي، ويؤكد أن الدولة مسؤولة عن ضمان حقوقهم.

*
يؤكد الإمام علي عليه السلام أن كل فئة لها حقها في المجتمع، ولا يجوز تفضيل فئة على أخرى، بل يجب أن يكون هناك توازن، فيقول: «وَفِي اللهِ لِكُلّ سَعَةٌ، وَلِكُلٍّ عَلَى الْوَالِي حَقٌّ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ».
وهذا المبدأ غاية في الأهمية، فالدولة مسؤولة عن تحقيق العدل بين جميع فئات المجتمع، فلا يجوز أن تحتكر فئة معينة السلطة أو الثروة على حساب الآخرين، ولا أن تصبح الدولة جهازاً يخدم طبقة اجتماعية استغلالية حساب بقية الطبقات والفئات الاجتماعية.
التوازن في توزيع الحقوق والواجبات يؤدي إلى استقرار المجتمع، ويمنع حدوث الفجوات الاجتماعية التي تؤدي إلى الفوضى والاضطرابات.

*
يحتاج كل مجتمع حديث إلى الجنود لحمايته، والإداريين لتنظيمه، والقضاة لضمان العدالة، والتجار لتحريك اقتصاده، والعمال للحفاظ على الإنتاج.
تتبنى الحكومات الحديثة التي تسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية سياسات اقتصادية معادية للنيوليبرالية، تدعم برامج مساندة لهذه الفئات الضعيفة، مثل برامج الرعاية الاجتماعية، وضمان حقوق العمال، وتحقيق عدالة في توزيع الثروات.
تعتمد التنمية الاقتصادية المستقرة والمستمرة على تنظيم دور كل فئة، بحيث لا يتم تهميش أي مجموعة، ولا يتم السماح لطبقة معينة بالتحكم الكامل في الموارد، ونحن أحوج ما نكون إلى هذه البرامج الاقتصادية الحديثة العادلة التي تنسجم مع عهد الإمام علي، والذي وضع بذورها النظيرة قبل قرون.

بين العمران والجباية
يقول الإمام علي لمالك الأشتر في عهده: «وَتفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِي صَلاحِهِ وَصَلاحِهِمْ صَلاَحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ، وَلا صَلاَحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلَّا بِهِمْ، لِأنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ».
«وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، لِأَنَّ ذلِكَ لا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْعِمَارَةِ، وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلَّا قَلِيلاً».
«فَإِنْ شَكَوْا ثِقْلاً أَوْ عِلَّةً، أَوِ انْقِطَاعَ شِرْبٍ أَوْ بَالَّةٍ، أَوْ إِحَالَةَ أَرْضٍ اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ، أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ، خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِما تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ، وَلا يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَؤُونَةَ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلَادِكَ».
«فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الأَرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا، وَإِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لإِشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلاَةِ عَلَى الْجَمْعِ، وَسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ، وَقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ».

*
في هذا الجزء من عهد الإمام علي لمالك الأشتر، يضع الإمام قاعدة للتنمية الاقتصادية، تقوم على دعم الإنتاج بدلاً من الاعتماد على الضرائب والجباية. فالتاريخ يثبت أن الأمم التي ركزت على تطوير مواردها الإنتاجية، هي التي استطاعت تحقيق الازدهار والاستقرار، بينما الدول التي اعتمدت فقط على الضرائب دون تنمية، تعرضت للانهيار الاقتصادي والسياسي.
يركز الإمام علي على فكرة جوهرية: أن الدولة لا يمكنها تحقيق الثروة بمجرد فرض الضرائب، بل يجب أن تخلق بيئة اقتصادية منتجة تدعم الاستثمار والزراعة والصناعة.

*
«وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلاَبِ الْخَرَاجِ، لِأَنَّ ذلِكَ لا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْعِمَارَةِ».
وهذا يعني أن على الدولة أن تستثمر في البنية التحتية، وتحفز الزراعة والصناعة، بدلاً من التركيز فقط على تحصيل الضرائب. فالضرائب لا يمكن أن تكون المصدر الوحيد لتمويل الدولة، بل يجب أن تكون جزءاً من نظام اقتصادي متكامل يدعم الإنتاج والعمالة والاستثمار.

*
ثم يحذر الإمام علي من النتائج الكارثية للضرائب الباهظة، إذ إنها قد تؤدي إلى إفقار الناس، وهروب رؤوس الأموال، وتراجع الإنتاج؛ فيقول عليه السلام: «وَمَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلَّا قَلِيلاً». وهذا المفهوم يتوافق تماماً مع نظريات الاقتصاد الحديثة، حيث تؤكد الوقائع أن زيادة الضرائب دون توفير بيئة اقتصادية منتجة تؤدي إلى هروب رأس المال إلى دول ذات ضرائب أقل، وتراجع الاستثمار بسبب ارتفاع التكاليف التشغيلية. ما يعني زيادة البطالة نتيجة إفلاس الشركات الصغيرة والمتوسطة، وضعف القدرة الشرائية للمواطنين، مما يؤدي إلى ركود اقتصادي.

ثم ينتقل الإمام إلى سياسة اقتصادية أخرى مهمة: ضرورة دعم الفلاحين وأصحاب المشاريع عند مواجهتهم للأزمات، بدلاً من تحميلهم المزيد من الأعباء.
«فَإِنْ شَكَوْا ثِقْلاً أَوْ عِلَّةً، أَوِ انْقِطَاعَ شِرْبٍ أَوْ بَالَّةٍ، أَوْ إِحَالَةَ أَرْضٍ اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ، أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ، خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِما تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ».
هذه رؤية اقتصادية متقدمة جداً، لأن الإمام علي يدعو إلى تقديم الدعم الحكومي للمزارعين والصناعيين عندما يواجهون أزمات، مثل الكوارث الطبيعية، أو نقص الموارد، أو ارتفاع تكاليف الإنتاج، وهذا المفهوم مطبق اليوم في معظم الدول المتقدمة، حيث تقوم الحكومات، بتقديم إعفاءات ضريبية ودعم مالي للمزارعين في حالات الجفاف أو الفيضانات، ودعم أصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة في فترات الركود الاقتصادي، وإطلاق برامج استثمارية تساعد الفئات الإنتاجية على تجاوز الأزمات، بدلاً من فرض المزيد من الضرائب عليهم.
*
يؤكد الإمام أن استقرار الاقتصاد يعتمد على وجود بيئة داعمة للإنتاج، لأن الدول التي تهتم بتمكين مواطنيها اقتصادياً، تصبح أكثر استقراراً وازدهاراً، يقول: «فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الأَرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا».
بمعنى أن المجتمع القوي اقتصادياً يمكنه تحمل تكاليف التنمية، أما المجتمع الذي يعاني الفقر بسبب السياسات الاقتصادية الفاشلة، فإنه ينهار بسرعة. وهذا ما نشاهده اليوم في العالم، فالدول التي دعمت الإنتاج والاستثمار أصبحت اقتصاداتها مستقرة وقوية، فيما الدول التي اعتمدت فقط على الجباية والضرائب تعرضت للانهيار الاقتصادي، وارتفعت فيها معدلات البطالة والتضخم من انخفاض لقيمة العملة وارتفاع في الأسعار.
*
وأخيراً، يكشف الإمام عليه السلام أحد أسباب إفقار الشعوب: وهو طمع الحكام في جمع المال السريع المال الجاهز المتوفر لدى الناس والذي هو نتاج كدهم وكدحهم، بدلاً من الاستثمار في مشاريع تحقق تنمية اقتصادية مستمرة وتنتج ثروة قومية للبلد، توزع بشكل عادل بما يعم الرفاهية لكل أبناء المجتمع.
يقول الإمام علي عليه السلام: «وَإِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لإِشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلاَةِ عَلَى الْجَمْعِ، وَسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ».
أي أن الحكام الفاسدين الذين يركزون فقط على جمع الثروات دون الاهتمام بتنمية الاقتصاد، هم السبب في إفقار شعوبهم، وهؤلاء الحكام يدركون أن الشعب سوف يثور عليهم فلا يأمنون البقاء لهذا يعملون على سرقة الشعب بأسرع وقت ممكن.
وهذه مشكلة يعاني منها العديد من الدول اليوم، حيث تسود فيها سياسات ضريبية قاسية تؤدي إلى هروب المستثمرين، في مقابل إنفاق الدولة على رفاهية الحاكم والمقربين منه بدلاً من دعم المشاريع التنموية، والاعتماد على حلول مؤقتة لا تحقق نمواً دائماً، بدلا عن التخطيط الاقتصادي طويل المدى، والمشاريع الاقتصادية الاستراتيجية.
*
بهذه المبادئ، يضع الإمام علي خارطة طريق للتنمية الاقتصادية المستدامة، حيث يؤكد أن الإنتاج هو الأساس، وليس الجباية. والدعم الحكومي للمزارعين وأصحاب المشاريع هو مفتاح الازدهار. وأن الاستقرار الاقتصادي يتحقق عندما يكون الشعب منتجاً وليس مستنزفاً بالضرائب. وهذه الرؤية لاتزال صالحة اليوم كما كانت منذ أكثر من ألف عام، وهي الأساس لأي اقتصاد ناجح في العصر الحديث.
*
نرى اليوم تطبيق هذه المبادئ في الدول التي تعتمد على الاستثمار في البنية التحتية، والزراعة، والصناعة، تحقق نمواً اقتصادياً؛ فالصين على سبيل المثال تنفق الجزء الأكبر من موازنتها العامة على الاستثمار.
والعملية الاقتصادية بهذه البساطة تنتج سلعة هذه السلعة تتحول إلى نقد، هذا النقد تشتري به مواد خام وتنتج سلعا جديدة، وهكذا تستمر الدورة الاقتصادية، أما الجبايات فهي تمنع تحول النقد إلى سلع وإنتاج ثروة جديدة.

دعم الإنتاج ومنع الاحتكار
يقول الإمام علي لمالك الأشتر: «ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً: الْمُقِيمِ مِنْهُمْ، وَالْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ، وَالْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ، فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ، وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ، وَجُلَّابُهَا مِنَ الْمَباعِدِ وَالْمَطَارِحِ، فِي بَرِّكَ وَبَحْرِكَ، وَسَهْلِكَ وَجَبَلِكَ، وَحَيْثُ لا يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا، وَلا يَجْترِئُونَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لا تُخَافُ بَائِقَتُهُ، وَصُلْحٌ لا تُخْشَى غَائِلَتُهُ، وَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَفِي حَوَاشِي بِلَادِكَ».

أهمية التجارة والصناعة في التنمية الاقتصادية
يؤكد الإمام علي في عهده إلى مالك الأشتر أهمية دعم التجار وأصحاب الصناعات، باعتبارهم العمود الفقري للاقتصاد، ومحركاً رئيسياً لحركة الإنتاج والتبادل التجاري. فالتجارة والصناعة لا تقتصران على تحقيق الأرباح للأفراد، بل تمتدان لتوفير السلع والخدمات التي يحتاجها المجتمع، وضمان استقرار الأسواق، وتنشيط حركة المال، مما يسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة، فمن الضرورة أن يكون جوهر النشاط الاقتصادي هو تلبية احتياجات المُجتمع، وأن يكون الإنسان مقدماً على الربح.
يقول الإمام علي: «فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ، وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ».
يشير هذا النص إلى أن التجار والصناعيين هم المصدر الأساسي للمنافع الاقتصادية، حيث يعملون على توفير الاحتياجات الأساسية للناس، ويساهمون في تيسير سبل العيش، وتحقيق الرفاهية العامة. ومن خلال عملهم، يصبح الاقتصاد أكثر ديناميكية، إذ يقوم التجار بتوزيع السلع ونقلها إلى مختلف المناطق، بينما يبتكر الصناعيون منتجات جديدة تعزز من قدرة المجتمع على الاكتفاء الذاتي.

دور التجارة الدولية في التنمية الاقتصادية
كما يبرز الإمام علي دور التجارة الدولية في سد الفجوات الاقتصادية، وجلب السلع غير المتوفرة محلياً، مما يسهم في تنوع الأسواق واستقرار الأسعار. فهو يشير إلى أن التجار يسافرون إلى أماكن بعيدة، برّاً وبحراً، لجلب الموارد التي لا يستطيع عامة الناس الوصول إليها.
يقول الإمام علي عليه السلام: «وَجُلَّابُهَا مِنَ الْمَباعِدِ وَالْمَطَارِحِ، فِي بَرِّكَ وَبَحْرِكَ، وَسَهْلِكَ وَجَبَلِكَ، وَحَيْثُ لا يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا، وَلا يَجْترِئُونَ عَلَيْهَا».
وهذا يعني أن التجارة لا تقتصر على الأسواق المحلية، بل تتجاوز الحدود الجغرافية، حيث يذهب التجار إلى أماكن نائية لاستيراد السلع، ما يساهم في تعزيز التكامل الاقتصادي بين المناطق والدول، وهذا التكامل يحقق التوازن بين العرض والطلب، ويمنع الأزمات الناجمة عن نقص بعض السلع. ومن الأفضل اليوم للدول أن تسعى لتقليص الميزان التجاري فتزيد من التصدير، وتهتم بالإنتاج الداخلي لتلبية احتياجات السكان، وضمان استقرار السوق.

التجار والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي
يرى الإمام علي أن التجار ليسوا مجرد أفراد يسعون للربح، بل هم عنصر استقرار اقتصادي واجتماعي، حيث يسهمون في توازن الأسواق، ويخلقون فرص عمل، مما يحد من البطالة والفقر، ولهذا، يجب أن تحرص الدولة على رعايتهم وتوفير بيئة مناسبة لعملهم.
يقول الإمام علي: «فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لا تُخَافُ بَائِقَتُهُ، وَصُلْحٌ لا تُخْشَى غَائِلَتُهُ». أي أن وجود التجار وازدهار التجارة هو عامل استقرار، حيث لا يشكلون خطراً على الدولة، بل يساهمون في تحقيق الاستقرار الاجتماعي من خلال تحريك عجلة الاقتصاد، ومنع الاحتكار، وتوفير السلع الضرورية للمواطنين. والتركيز هنا على التجارة، لكونها كانت النشاط الاقتصادي الأبرز في ذلك العصر، قبل أن تصبح الصناعة هي الأساس الاقتصادي في وقت لاحق.

مراقبة الأسواق ومنع الاحتكار
بعد تأكيده على أهمية دعم التجارة والصناعة، يحذر الإمام علي من الأخطار التي قد تنشأ عند غياب الرقابة، مثل الجشع والاحتكار، وهو أمر يهدد استقرار الأسواق، ويضر بالمواطنين، خاصة الفقراء.
يقول الإمام علي: «وَاعْلَمْ -مَعَ ذلِكَ- أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً، وَشُحّاً قَبِيحاً، وَاحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ، وَتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ، وَذلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ، وَعَيْبٌ عَلَى الْوُلاَةِ».
هنا، يشير الإمام إلى أن بعض التجار قد يستغلون حاجة الناس ويتلاعبون بالأسعار، مما يؤدي إلى زيادة الفجوة بين الفقراء والأغنياء. فالاحتكار والتلاعب في الأسواق لا يضر بالمستهلكين فقط، بل يشكل أيضاً عيباً على الحاكم الذي لا يتدخل لضبط السوق. ومن هنا، يدعو الإمام إلى ضرورة رقابة الأسواق لضمان العدالة الاقتصادية.

دور الحكومة في تنظيم الأسواق ومنع الاستغلال
لتفادي هذه المشكلات، يؤكد الإمام علي على دور الحكومة في وضع سياسات عادلة تمنع الاحتكار، وتضمن توفر السلع للجميع بأسعار عادلة. يقول الإمام علي: «فَامْنَعْ مِنَ الاحْتِكَارِ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) مَنَعَ مِنْهُ».
وهذا يدل على أن مكافحة الاحتكار ليست فقط مسألة اقتصادية، بل هي أيضاً مبدأ أخلاقي وديني وانساني، حيث يؤكد الإمام على ضرورة تدخل الحاكم لضمان توازن الأسواق، ومنع استغلال التجار لحاجات الناس.
*
ثم يضع الإمام مبادئ التجارة العادلة التي يجب أن تحكم السوق: «وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً: بِمَوَازِينِ عَدْلٍ، وَأَسْعَارٍ لا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالمُبْتَاعِ». بمعنى أن الأسواق يجب أن تعمل وفق قواعد واضحة، بحيث لا يتم استغلال البائع أو المشتري، بل تكون هناك موازين عادلة تحفظ حقوق جميع الأطراف.

عقوبة المحتكرين والمتلاعبين بالأسعار
وأخيراً، يشدد الإمام علي على ضرورة فرض عقوبات على التجار الذين يخالفون القواعد، ولكن دون تجاوز الحد في العقوبة؛ فيقول عليه السلام: «فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ، وَعَاقِبْ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ.» أي أن الحكومة يجب أن تتخذ إجراءات صارمة ضد المحتكرين، ولكن ضمن حدود العدل، بحيث تكون العقوبة رادعة دون ظلم أو تجاوز. وهذا يبرز الحكمة في سياسة الإمام علي، حيث يؤكد على أهمية العقوبة لضبط السوق، لكن دون أن تتحول هذه العقوبة إلى وسيلة للقمع أو الظلم.
*
يوضح الإمام علي في هذا العهد جنينيات وبذرات لرؤية اقتصادية عادلة وحكيمة تقوم على دعم التجارة والصناعة، وتشجيع التكامل الاقتصادي، وضبط الأسواق من خلال منع الاحتكار والاستغلال، مع التأكيد على دور الحكومة في تحقيق العدالة الاقتصادية. وتظل هذه المبادئ صالحة لكل زمان، إذ إنها تقدم نموذجاً متوازناً بين تشجيع النشاط الاقتصادي وحماية حقوق المواطنين من الاستغلال، وهو ما تحتاج إليه المجتمعات الحديثة لضمان تنمية اقتصادية عادلة ودائمة.
نرى اليوم تطبيق هذه المبادئ في العصر الحديث لدى الدول الناجحة العادلة في تشجيع الاستثمار في التجارة والصناعة، لأنها تساهم في تنمية الاقتصاد وتوفير فرص العمل، وسن قوانين لمكافحة الاحتكار، ومنع بعض الشركات من التحكم في السوق والتلاعب بالأسعار، ووضع معايير لحماية المستهلك، تضمن الشفافية في الأسعار، ومنع التلاعب في جودة السلع، وتدخل الحكومات لتنظيم الأسواق، مثل تحديد أسعار بعض السلع الأساسية في الأزمات.

أترك تعليقاً

التعليقات