المفاوضات الإيرانية - الأمريكية
 

أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -
في 12 نيسان/ أبريل 2025، انطلقت في سلطنة عُمان جولة جديدة من المفاوضات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة، ركزت على الملف النووي ورفع العقوبات. ورغم الأجواء الإيجابية لهذه الجولة، بقيت الخلافات عميقة حول آليات التخصيب والضمانات، وإجراءات رفع العقوبات، وسط رفض إيراني لإدراج الملفات الصاروخية والإقليمية واعتبارها خطوطاً حمراء. حظيت المحادثات بترحيب خليجي ومصري، في مقابل قلق صهيوني متزايد. داخلياً، أبدت طهران دعماً حذراً للمسار، مع تمسكها بثوابتها السيادية. وتُعد هذه المفاوضات اختباراً استراتيجياً لمستقبل الأمن الإقليمي، حيث إن نجاحها قد يفتح باباً للتهدئة، بينما فشلها يهدد بإشعال مزيد من التوترات في المنطقة وعودة التصعيد الأمريكي - الصهيوني، وتجري المفاوضات في ظل تحشيد عسكري أمريكي إلى المنطقة.
تعود المفاوضات بين الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة إلى الواجهة في لحظة إقليمية ودولية بالغة التعقيد، وسط احتدام الصراعات في أكثر من ساحة في "الشرق الأوسط"، وتصاعد المخاوف من انزلاق جديد نحو سباق تسلّح أو مواجهة مفتوحة. وقد شكّلت العاصمة العُمانية (مسقط) مسرحاً للجولة الأولى من هذه المفاوضات غير المباشرة، بمشاركة رفيعة المستوى من الطرفين، وسط رعاية إقليمية واهتمام دولي واسع.
وتأتي هذه الجولة بعد انقطاع طويل وتراكم كبير للتوترات، منذ انسحاب إدارة ترامب في ولايته الأولى من الاتفاق النووي الموقع عام 2015، وما أعقبه من تصعيد في السياسات والعقوبات والمواقف، لتدخل العلاقة بين البلدين في حالة شدّ وجذب، يتأرجح فيها الخطاب بين التهديد بالعقوبات أو الضربات العسكرية، والانفتاح على التفاوض.

طبيعة المفاوضات الأمريكية - الإيرانية ومسارها
المفاوضات التي تجري غير مباشرة حتى الآن، وتجري بوساطة سلطنة عُمان، رغم محاولات أمريكية لتحويلها إلى مباشرة، وهو ما ترفضه طهران حالياً، بسبب ما تصفه بـ"التناقض في المواقف الأمريكية" واستمرار الضغوط والعقوبات.
عقدت الجولة الأولى في 12 نيسان/ أبريل 2025 في مسقط بسلطنة عُمان، ومن المقرر أن تُعقد الجولة الثانية اليوم 19 نيسان/ أبريل، وقد يتم نقلها إلى روما بطلب أمريكي.
ترأس الجانب الإيراني وزير الخارجية عباس عراقجي، مسؤول المفاوضات حول الملف النووي في العام 2015، وترأس الجانب الأمريكي ستيف ويتكوف، مبعوث الرئيس الأمريكي ترامب إلى "الشرق الأوسط".
تركزت المفاوضات على الملف النووي الإيراني، ورفع العقوبات الاقتصادية، مع رفض إيراني لتوسيع النقاش ليشمل منظومتها الصاروخية أو نفوذها الإقليمي.
وُصفت المفاوضات من الطرفين بأنها "إيجابية وبنّاءة"، وجرت في أجواء هادئة وباحترام متبادل، وقد استمرت حوالى ساعتين ونصف الساعة، تبادل خلالها الطرفان وجهات النظر عبر الوسيط العُماني، مع تلميحات لاحقة من بعض المسؤولين الأمريكيين بأن الحوار قد يتحول إلى مباشر.
الطرف الإيراني حدد هدفه المُعلن في رفع العقوبات مقابل خطوات شفافة تبني الثقة بشأن البرنامج النووي. أما الطرف الأمريكي فقد حدد هدفه المُعلن بوقف التخصيب المرتفع لليورانيوم وتقييد البرنامج النووي، مع ضمانات تحول دون امتلاك إيران سلاحاً نووياً.
طابع المفاوضات سياسي- تقني، يتناول تفاصيل فنية حول مستويات التخصيب والمخزون النووي؛ لكنه محاط بتوترات سياسية واضحة، نتيجة التهديدات الأمريكية المتواصلة بفرض عقوبات إضافية أو اللجوء إلى الخيار العسكري إذا فشلت المفاوضات.

القضايا المطروحة على طاولة التفاوض
تركّزت المفاوضات التي وقعت في مسقط -والمنتظر استئنافها في روما- على عدد من القضايا الجوهرية، التي تمثل نقاط التوتر الرئيسية بين الطرفين.
خفض نسبة تخصيب اليورانيوم هو أحد أبرز المطالب الأمريكية، حيث تطالب واشنطن بخفض التخصيب إلى ما دون 60%، وهو المستوى الذي تعتبره يشكل خطراً عسكرياً محتملاً. وتريد الولايات المتحدة ضمانات بعدم سعي طهران لتصنيع سلاح نووي. ورغم تأكيد إيران سلمية برنامجها، تسعى الولايات المتحدة للحصول على ضمانات صارمة، معززة برقابة دولية.
كما أن الشفافية والتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية إحدى القضايا المطروحة. وقد طُرح ملف زيارة مدير الوكالة الدولية إلى طهران في هذا السياق، ضمن ترتيبات بناء الثقة.
الشرط الإيراني الأول هو رفع العقوبات. أكدت إيران أنها لن تقدّم أي تنازل دون رفع "العقوبات الظالمة وغير القانونية" بشكل فوري، فيما الرؤية الأمريكية: رفع تدريجي للعقوبات مقابل التزامات نووية واضحة ومحددة زمنياً؛ وهنا نقطة الخلاف.
تطالب إيران بضمانات أمريكية بعدم الانسحاب مجدداً من أي اتفاق (كما حدث في 2018 حين صعد ترامب إلى البيت الأبيض)، فيما لم تقدّم أمريكا بعد ضمانات قانونية واضحة، خاصة مع الطبيعة الشخصية لإدارة ترامب وتقلباتها.
ترى إيران أن العودة للاتفاق الأصلي لعام 2015 هي نقطة الانطلاق، بينما تشير واشنطن إلى رغبتها في "اتفاق مُحدث" يتجاوز اتفاق 2015 ويشمل بنوداً إضافية.
رغم اقتصار المفاوضات رسمياً على الملف النووي، هناك حديث غير مباشر عن سياسة إيران الخارجية في الإقليم، ودعمها محور المقاومة، ودور ذلك في توتير العلاقات مع الحلفاء الإقليميين لأمريكا، فيما ترفض إيران إدراج هذه الملفات في المفاوضات، وتعتبره "حقاً سيادياً"، بينما تصر واشنطن وحلفاؤها -خاصة "إسرائيل"- على عدم فصل النووي عن الدور الإقليمي للجمهورية الإسلامية.
وتحاول واشنطن منذ عهد أوباما إدراج البرنامج الصاروخي في الاتفاقات، فيما ترفض إيران ذلك بشكل قاطع، وتعتبر منظومتها الدفاعية والصاروخية خطاً أحمر، خاصة بعد تجارب ليبيا والعراق.
فهذه الملفات مطروحة ضمناً، وليست مطروحة رسمياً في الاتفاق، وتعتبرها إيران خطوطاً حمراء.

المخرجات الأولية للمفاوضات
رغم قصر مدة الجولة الأولى من المفاوضات، التي عُقدت يوم 12 نيسان/ أبريل الجاري، إلا أنها أسفر عنها عدد من المخرجات الأولية التي يمكن رصدها من التصريحات الرسمية ومواقف الأطراف:
- أكد الجانبان (الإيراني والأمريكي) أن المحادثات جرت في أجواء بناءة وهادئة، بعيداً عن التصعيد الإعلامي أو الخطابات العدائية، ووُصفت بأنها "خطوة أولى ناجحة" لتمهيد الطريق نحو حوار أعمق، وتم تبادل وجهات النظر عبر الوسيط العُماني.
- تم الاتفاق رسمياً على عقد جولة ثانية من المفاوضات يوم 19 نيسان/ أبريل 2025، والمقترح أن تُعقد الجولة القادمة في روما بدلاً من مسقط، وقد تكون بصيغة مباشرة هذه المرة، بحسب مصادر أمريكية، وإن كانت طهران لا تزال تفضّل المفاوضات غير المباشرة.
- اتفق الطرفان على العمل في الجولة القادمة على تحديد الإطار العام للمفاوضات، بما يشمل: الجدول الزمني لخفض التخصيب، آلية رفع العقوبات، الإجراءات المقترحة لبناء الثقة، طبيعة دور الوكالة الدولية للطاقة الذرية في المرحلة المقبلة.
- صرّح المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف بأن واشنطن "مستعدة لتقديم تنازلات"، دون توضيح نوعها، مما يوحي بوجود مساحة للمقايضة في الملفات المطروحة، فيما قال ترامب إن المفاوضات "تسير بشكل جيد"، لكنه لم يُسقط التهديد العسكري في حال فشلها.
- صدرت بيانات ترحيب من دول خليجية ومصر، تؤكد دعم جهود سلطنة عمان في الوساطة، مع آمال بأن تفضي إلى تهدئة إقليمية وتخفيف التوتر. ورغم ذلك، أبدى الكيان الصهيوني قلقاً واضحاً من "مسودة اتفاق أمريكي قد لا يشمل تفكيك البرنامج النووي الإيراني بالكامل"، وتخشى من أن يوقّع ترامب اتفاقاً مرحلياً لا يرضي "تل أبيب".
- أشادت الأوساط الحكومية والإعلامية الإيرانية بجولة المفاوضات الأولى، واعتبرتها "مهنية وهادئة"، وأكدت أنها تنحصر في الملف النووي ورفع العقوبات فقط، ودعم المرشد الأعلى علي خامنئي المفاوضات بصمت، بينما قدم عباس عراقجي تقريراً إلى مجلس الوزراء، نال إثره إشادة من الحكومة.

الثوابت والسياسات للطرفين في المفاوضات
تُظهر الجولة الأولى من المفاوضات غير المباشرة في مسقط، إلى جانب التصريحات العلنية للطرفين، ثوابت تفاوضية صارمة تشكل جوهر المواقف الرسمية لكل منهما، وتؤسس لطبيعة الصراع الدبلوماسي بين الجانبين. فمن جهة، تتمسك طهران برفع العقوبات كشرط أولي غير قابل للتفاوض، باعتباره مدخلاً سيادياً لأي اتفاق، وترفض القبول بأي التزامات أو تنازلات دون إجراءات أمريكية ملموسة تسبق التفاهمات. وتُحتفظ إيران بموقفها الرافض للتفاوض المباشر في ظل ما تصفه بـ"التقلبات" الأمريكية، مطالبة بضمانات تمنع تكرار سيناريو الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي عام 2018. كما تُصرّ إيران على حصر النقاش في الملف النووي، دون التطرق إلى برنامجها الصاروخي أو نفوذها الإقليمي، وترفض أي محاولة لنزع قدراتها الدفاعية أو المساس بمنظومتها الإقليمية، باعتبار ذلك خطوطاً حمراء ترتبط بأمنها الاستراتيجي وعمقها الجيوسياسي.
في المقابل، تتبنى الولايات المتحدة موقفاً تفاوضياً يرتكز على منع إيران من امتلاك سلاح نووي بأي ثمن، وهو ما تعكسه تصريحات إدارة ترامب التي تضع سقفاً سياسياً وعسكرياً صلباً. وتسعى واشنطن إلى فرض تخفيضات واضحة في مستويات تخصيب اليورانيوم والمخزون الإيراني منه، إلى جانب العودة إلى نظام رقابة دولية مشدد بصلاحيات موسعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
كما تشدد الولايات المتحدة على أن تخفيف العقوبات لن يكون غير مشروط، بل سيكون مقابل التزامات نووية دقيقة قابلة للقياس والتحقق، وتحت مراقبة دولية صارمة. وفي خلفية المشهد، تلوّح واشنطن بإبقاء الخيار العسكري مفتوحاً، في حال فشل المسار التفاوضي، ما يعكس منطق الردع والاستباق الذي يحكم رؤيتها الأمنية تجاه إيران.
بناءً على ما تقدم، يتبين أن الطرفين يتفاوضان من خلف خطوط حمراء متباعدة: طهران تنطلق من منطق السيادة ورفض الإملاءات الخارجية، مستندة إلى تجربة "المظلومية التاريخية"، فيما تتقدم واشنطن برؤية تُمليها ضرورات الردع النووي، وضمان أمن الحلفاء في "إسرائيل" والخليج.
وتتمثل المعضلة البنيوية في أن طهران تسعى إلى تحقيق نتائج فورية مقابل التزامات مستقبلية، بينما تصر واشنطن على وعود حالية تُقابلها نتائج مستقبلية. وهو ما يضع الوسطاء، وعلى رأسهم سلطنة عمان، أمام تحدٍّ حقيقي يتمثل في ابتكار صيغة وسطية تتيح التقدم في المسار دون أن يخسر أيٌّ من الطرفين مبرراته الداخلية أو الإقليمية. وفي ظل هذا التوازن الدقيق، يبقى خطر انهيار المفاوضات قائماً، رغم الأجواء التي وُصفت بـ"الإيجابية".

انعكاسات المفاوضات على الإقليم في حال فشلها أو نجاحها
تتجاوز المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة حدود العلاقات الثنائية، لتلامس بصورة مباشرة البنية الأمنية والسياسية في الإقليم بأكمله، خاصة في الخليج العربي وبلاد الشام واليمن ولبنان، بالإضافة إلى البحر الأحمر والملف الفلسطيني. وبهذا، فإن مخرجات هذه المفاوضات، سواء نجحت أم فشلت، ستلقي بظلال استراتيجية على التوازنات الإقليمية والدولية.
في حال نجاح المسار التفاوضي، يُتوقع أن يسهم ذلك في تخفيف منسوب التوتر في منطقة الخليج، ويفتح المجال أمام تهدئة تدريجية في العلاقات بين طهران وعدد من العواصم الخليجية، وفي مقدمتها الرياض وأبوظبي. كما قد يشكل الاتفاق مدخلاً لحوارات سياسية في ملفات مزمنة كالأزمة اليمنية، ويعزز فرص الحلول التفاوضية في ساحات أخرى. على الصعيد الداخلي، سيؤدي رفع العقوبات إلى إنعاش الاقتصاد الإيراني جزئياً، ويمنح الحكومة مرونة أكبر في إدارة الاستحقاقات الداخلية، وربما يفتح المجال أمام تعزيز الحضور الإقليمي الإيراني.
وفي السياق السياسي، فإن النجاح في إبرام الاتفاق سيشكل مكسباً للتيار الإصلاحي داخل إيران، بما قد يؤثر على موازين القوى في الانتخابات المقبلة، ويُضعف هيمنة المحافظين. ومن المحتمل أيضاً أن يُسهم نجاح الاتفاق في خلق تهدئة نسبية في ملفات مشتعلة، مثل سورية ولبنان واليمن، عبر تفاهمات جانبية مباشرة أو غير مباشرة.
وعلى الصعيد الدولي، قد يجد كيان الاحتلال نفسه في موقع أكثر عزلة، خاصة إذا اعتبرت واشنطن والدول الكبرى الاتفاق مرضياً، مما يُقيد قدرة "تل أبيب" على تنفيذ تحركات أحادية الجانب ضد إيران دون تغطية غربية واضحة.
في المقابل، فإن فشل المفاوضات من شأنه أن يدفع المنطقة إلى حافة انفجار محتمل، حيث يُتوقع تصاعد التوتر في الخليج العربي، مع احتمالية إعادة تفعيل تهديدات الملاحة في مضيق هرمز وخليج عُمان وباب المندب، وارتفاع مستويات التهديد للبنى التحتية النفطية في المنطقة، خصوصاً إذا عادت الحرب الشاملة في اليمن.
وفي هذا السياق، قد تتجه الولايات المتحدة إلى تشديد العقوبات وتبنّي سياسات أكثر عدوانية، بما يشمل تنفيذ ضربات عسكرية محدودة، وهو ما قد تقابله إيران بردود محسوبة، دون استبعاد انزلاق الوضع نحو مواجهة إقليمية مفتوحة.

أترك تعليقاً

التعليقات