أنس القاضي

أنس القاضي / لا ميديا -
الحرب الإيرانية - "الإسرائيلية" ليست مجرد مواجهة عابرة، بل لحظة مفصلية في تاريخ المنطقة، تنذر بإعادة صياغة النظام الإقليمي على أسس جديدة، في لحظة تحولات عالمية. تكشف هذه المواجهة عن صراع إرادات بين طرفين يتنافسان على إعادة تعريف قواعد الاشتباك في المنطقة؛ فـ"إسرائيل"، التي لا شرعية لها في الوجود، تسعى إلى فرض معادلة احتكار القوة الاستراتيجية وحرمان الجمهورية الإسلامية منها، فيما تسعى إيران، ضاربة الجذور في حضارة المنطقة، أن تؤكد قدرتها على الصمود والرد، بما يضمن لها مكانة إقليمية ضمن صعود بلدان الشرق والجنوب العالمي في مواجهة نظام الأحادية القطبية، ومركز تفاوضي قوي في المفاوضات النووية، وشرعية شعبية.
الخلفيات الاستراتيجية والسياسية للعدوان "الإسرائيلي" على إيران
يأتي العدوان "الإسرائيلي" واسع النطاق على العمق الإيراني ضمن سياق استراتيجي معقّد يشهد تحولات متسارعة على المستويين الإقليمي والدولي. ففي الوقت الذي تتعثر فيه مفاوضات الملف النووي بين إيران والولايات المتحدة، وتتصاعد الانتقادات الداخلية لحكومة بنيامين نتنياهو في ظل فشلها المتراكم في غزة، تسعى "إسرائيل" إلى إعادة تشكيل ميزان الردع عبر ضربة نوعية تستهدف البنية العسكرية والعلمية الإيرانية، بما في ذلك منشآت نووية وصاروخية، ومراكز قيادة تابعة للحرس الثوري، وعلماء نوويين بارزين.
إن الضربة "الإسرائيلية"، التي حملت اسم "الأسد الصاعد"، وفقاً للتسمية العسكرية "الإسرائيلية" (التي تشير إلى الأسد: رمز إيران الملكية سابقاً)، لا يمكن فهمها إلا في إطار هدف مركب يجمع بين الضرورات التكتيكية والتطلعات الاستراتيجية.
فمن جهة تهدف الضربة إلى تصدير الأزمة السياسية الخانقة التي تواجهها حكومة نتنياهو، وتحويل الأنظار نحو تهديد خارجي وجودي. ومن جهة أخرى، تمثل هذه العملية محاولة استباقية لتعطيل أي تقدم نوعي في القدرات النووية والصاروخية الإيرانية، لاسيما في ظل القلق "الإسرائيلي" المتنامي من اقتراب إيران من عتبة التخصيب النووي الذي يسمح باستخدامات عسكرية، وما يمثله ذلك من تهديد محتمل لتفوق "إسرائيل" الاستراتيجي في المنطقة.
لقد أعادت "إسرائيل" عبر هذه الضربة إحياء عقيدة الضربة الاستباقية، التي شكّلت جوهر استراتيجيتها العسكرية في حرب حزيران/ يونيو 1967، حين نجحت في تدمير سلاح الجو المصري بضربة واحدة قبل نشوب الحرب. ويتجلى هذا المنطق في استهداف البنية التحتية الحيوية للبرنامج النووي الإيراني، ومنظومات الدفاع الجوي، ومراكز القيادة، في محاولة لشلّ قدرة إيران على الرد السريع أو الفوري، وبالتالي فرض معادلة ردع جديدة تتيح لـ"إسرائيل" هامشاً أكبر من الحرية الميدانية.
ورغم أن الولايات المتحدة لم تعلن مشاركتها العسكرية المباشرة في هذه العملية؛ إلا أن المؤشرات كافة تدل على وجود تنسيق عميق ومسبق بين واشنطن و"تل أبيب". فقد تم تنفيذ الضربة بدعم استخباراتي أمريكي، عبر الأقمار الصناعية والطائرات المسيّرة، كما سُجل نشاط غير اعتيادي في غرف العمليات المرتبطة بالقواعد الأمريكية في الخليج، إضافة إلى إجلاء جزئي لرعايا أمريكيين من بعض السفارات.
وقد أكد الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في تصريح، أن طهران تلقت إنذاراً منذ ستين يوماً، وفي وقت لاحق دعا ترامب سكان طهران إلى إخلاء العاصمة، كنوع من الضغط، وهو ما يعزز فرضية أن العدوان "الإسرائيلي" كان جزءاً من استراتيجية أمريكية أوسع تهدف إلى دفع إيران نحو تقديم تنازلات في الملف النووي.
في المقابل، فإن طهران لم تكن في حالة استعداد فعلي لمواجهة بهذا الحجم، ويبدو أن تقديراتها الاستخباراتية فشلت في التنبؤ بمستوى التصعيد المحتمل. فقد اعتقدت القيادة الإيرانية أن التصريحات "الإسرائيلية" المتضاربة، والتي سبقت العدوان، تندرج ضمن أدوات الضغط النفسي التفاوضي قبيل جولة مرتقبة من المفاوضات النووية كانت مقررة في مسقط. ويشير هذا إلى وجود ثغرات في تقدير الموقف، لاسيما في ظل الثقة المفرطة بمنظومتها الأمنية، واعتقادها بأن ردودها السابقة في عمليتي "الوعد الصادق 1" و"الوعد الصادق 2" قد نجحت في ردع "إسرائيل" عن شن ضربة مباشرة وشاملة.
يمكن القول، في هذا السياق، بأن العدوان "الإسرائيلي" لا يعبر فقط عن تحول في أسلوب إدارة الصراع، بل يشير أيضاً إلى محاولة لفرض وقائع ميدانية جديدة قبل أن يتمكن محور المقاومة من توسيع هامش نفوذه، أو قبل أن تنضج التسويات السياسية المحتملة حول البرنامج النووي الإيراني. ومع ذلك فإن طبيعة الضربة، وما رافقها من تنسيق استخباراتي، واغتيالات دقيقة، تشير إلى أن "إسرائيل" وضعت كل ثقلها في هذه المعركة، الأمر الذي يجعل من أي فشل صهيوني بمثابة ارتداد خطير على مكانتها الإقليمية وعلى تماسك جبهتها الداخلية.
إن هذه المواجهة تكشف عن صراع إرادات بين طرفين يتنافسان على إعادة تعريف قواعد الاشتباك في المنطقة. فـ"إسرائيل" تسعى إلى فرض معادلة ردع تستثني إيران من أية قدرة رد استراتيجية، فيما تسعى إيران لتأكيد قدرتها على الصمود والرد، بما يضمن لها مكانة تفاوضية أقوى مستقبلاً، وشرعية شعبية أمام اختراقات "الإسرائيلية".
الرد الإيراني وتكتيكاته العسكرية والسياسية
شكّل الرد الإيراني على العدوان "الإسرائيلي" تحولاً نوعياً في قواعد الاشتباك الإقليمي، ومؤشراً إلى تطور في العقيدة العسكرية الإيرانية، التي ظلت لعقود تعتمد على سياسة "الردع عبر الحلفاء" دون انخراط مباشر في مواجهة مفتوحة مع الكيان الصهيوني. وقد اتخذ الرد الإيراني منحى تدريجياً ومدروساً، بدءاً من الضربات الصاروخية والمسيّرات التي استهدفت العمق "الإسرائيلي"، مروراً بإدخال أسلحة جديدة إلى الميدان، وانتهاءً بتوسيع نطاق الاشتباك بالانخراط اليمني العلني في العمليات.
يُقرأ الرد الإيراني في سياقه العسكري بوصفه محاولة لاستعادة زمام المبادرة وإعادة بناء صورة الردع التي اهتزت عقب الضربة الصهيونية، لاسيما مع استهداف قيادات بارزة في الحرس الثوري ومنشآت حساسة كالمنشأة النووية في نطنز. ويلاحظ أن الرد جاء متدرجاً ولم يكن فورياً، وهو ما يعكس رغبة إيرانية في ضبط الإيقاع العملياتي، وتجنب الوقوع في فخ التصعيد غير المنضبط.
من الناحية العملياتية، بدأت إيران برد محدود نسبياً، شمل إطلاق مسيّرات وصواريخ دقيقة استهدفت مواقع عسكرية وبنى تحتية في "تل أبيب" وحيفا وميناء قيسارية؛ لكنها سرعان ما وسعت نطاق الرد تحت عنوان عملية "الوعد الصادق 3"، في إشارة رمزية إلى التزام بالثأر المبرمج لا العاطفي. وقد تمّ الإعلان عن استخدام صاروخ "حاج قاسم"، بما يحمله من رمزية عسكرية وسياسية، ويعبّر عن تماسك محور المقاومة الممتد من طهران إلى البحر المتوسط والبحر الأحمر.
لم يكن الرد الإيراني مقتصراً على البعد الصاروخي فحسب، بل أُرفق بتحركات منسقة مع حلفاء إيران الإقليميين. فقد شاركت صنعاء بقصف أهداف "إسرائيلية"، بالتنسيق مع الحرس الثوري، وهددت فصائل عراقية حليفة باستهداف القواعد الأمريكية إذا استمر الدعم الغربي لـ"إسرائيل". وتدل هذه التحركات على أنّ الرد الإيراني لم يكن فقط دفاعياً، بل حمل رسائل إقليمية بأن أي عدوان على طهران سيُواجه بردّ من "الجغرافيا الممتدة" لمحور المقاومة، لا من حدود الدولة الإيرانية وحدها. ويمكن القول بأن إيران نقلت المعركة من حدودها إلى حدود خصومها، ووسّعت الجبهات المفتوحة بما يمنحها عمقاً استراتيجياً إضافياً.
على المستوى السياسي، حرصت طهران على إظهار الرد كموقف سيادي منسجم مع الشرعية الدولية في الدفاع عن النفس، لاسيما بعد تنديد موسكو وبكين والعديد من الدول الإقليمية بالعدوان "الإسرائيلي"، منها بيان موحد لعشرين دولة عربية وإسلامية. وصرّح قادة إيرانيون، بمن فيهم المرشد الأعلى، بأن الرد سيتواصل حتى تحقيق التوازن، فيما أشار وزير الخارجية إلى أن إيران مستعدة لأي اتفاق نووي لا يُفضي إلى تفكيك برنامجها السيادي. وبين التصعيد العسكري والمناورة السياسية، حافظت طهران على قدرة عالية في إدارة التوازن بين القوة والشرعية، وبين الحسم والتهدئة.
تكتيكياً، ارتكز الرد الإيراني إلى عدد من المرتكزات الأساسية: أولاً: تفادي الرد المباشر عبر استخدام الموجات المتدرجة، ما يسمح بالتحكم بوتيرة التصعيد ويمنح الحلفاء الوقت للتفاعل؛ ثانياً: الاستفادة من القدرات السيبرانية والاستخباراتية في استهداف مراكز قيادة حساسة؛ وثالثاً: التركيز على البنى الاقتصادية الحيوية، كاستهداف مصافي حيفا، في سابقة تؤشر إلى انتقال إيران من خطاب التهديد إلى تنفيذ استراتيجي يضرب عمق البنية المجتمعية والاقتصادية للكيان.
من جهة أخرى، فإن الحذر الإيراني من الذهاب إلى مواجهة شاملة لا يعني الضعف، بل يُعبّر عن إدراك عميق لمعادلات القوة في الإقليم، ورغبة في تجنب توريط الحلفاء في حرب مفتوحة قبل تبلور موقف دولي نهائي. وقد حرصت طهران على إرسال رسائل واضحة إلى كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بأن أي دعم مباشر للعدوان سيُقابل باستهداف قواعدها في المنطقة، ما يوسّع دائرة الردع إلى ما هو أبعد من "إسرائيل" نفسها.

أبعاد الاختراقات الأمنية داخل إيران وتداعياتها الاستراتيجية
كشفت الضربة "الإسرائيلية" المكثفة على العمق الإيراني مستوى خطر من الاختراقات الأمنية التي تعرّضت لها بنية النظام الدفاعي والاستخباراتي في الجمهورية الإسلامية، وهو ما أعاد طرح تساؤلات حادة حول قدرة إيران على تحصين جبهتها الداخلية، في ظل تصاعد تهديدات الحرب المفتوحة، وتطور أدوات الحرب الاستخباراتية والهجينة.
لقد تميّزت العملية العدوانية الصهيونية بأنها لم تكن مجرد قصف جوي تقليدي، بل ارتكزت على تنسيق استخباراتي دقيق، ودعم لوجستي من داخل الأراضي الإيرانية، عبر شبكات عملاء وخلايا نائمة تابعة لجهاز "الموساد" وشركائه الإقليميين والدوليين. وتشير المعطيات الأولية إلى أن بعض المواقع المستهدفة، كمقرات الحرس الثوري ومراكز تطوير الصواريخ، تم تحديدها بدقة غير مسبوقة، الأمر الذي لا يمكن تفسيره إلا بوجود اختراق داخلي واسع، سواء على مستوى البنية البشرية أو التكنولوجية.
وقد اعترفت الأجهزة الإيرانية، في الأيام التي أعقبت الضربة، باعتقال أربعة عملاء متورطين في تزويد العدو بمعلومات حساسة. كما أعلنت تفكيك ورش لتصنيع مسيّرات ومتفجرات داخل البلاد كانت تحت سيطرة جماعات معادية للنظام. هذا الاعتراف الصريح يُعد تطوراً نادراً في الخطاب الإيراني الرسمي، ويشير إلى أن حجم الاختراقات تجاوز ما يمكن التستر عليه أو إنكاره، ما يفتح الباب أمام إعادة تقييم شاملة للمنظومة الأمنية، وربما لإعادة هيكلتها.
إن الأخطر في هذه الاختراقات لا يتمثل فقط في قدرتها على تسهيل الضربة "الإسرائيلية"، بل في ما تطرحه من تهديدات مستدامة للجبهة الداخلية الإيرانية، في ظل تزايد نشاط جماعات المعارضة المسلحة والمدعومة من الخارج. وقد جاء تبنّي مليشيا "جيش العدل" (جماعة سلفية انفصالية تنشط في إقليم بلوشستان) للقتال إلى جانب "إسرائيل"، ليؤكد وجود تنسيق بين بعض الحركات المعادية للنظام والعدو الصهيوني، وهو ما ينذر بإمكانية تطور الحرب إلى صراع متعدد الأذرع، ليس فقط عبر الحدود، بل من داخل النسيج الإيراني ذاته.
وقد تزامنت الضربة مع تصعيد في الخطاب التعبوي من قبل الأجهزة الأمنية الإيرانية، حيث صدرت تعليمات مشددة للمواطنين بالإبلاغ عن أي نشاطات مشبوهة، وتفعيل الرقابة الأهلية على الأحياء السكنية، فيما تمّ تداول منشورات تحذيرية حول استخدام العدو لتقنيات تتبع الهواتف الذكية، وكشفت وزارة الداخلية عن مخططات لزعزعة الاستقرار عبر وسائل الإعلام الجديدة والشبكات الافتراضية. كذلك، أصدرت السلطات حكماً بالإعدام بحق شخص وُصف بأنه "جاسوس للموساد"، في رسالة ردع موجهة إلى الداخل والخارج على حدّ سواء.
تداعيات هذه الاختراقات تتجاوز البُعد الأمني المباشر، لتصل إلى الحيز السياسي والشعبي. إذ وجّهت شخصيات داخل البرلمان الإيراني وبعض وسائل الإعلام شبه الرسمية انتقادات لاذعة للأجهزة الأمنية، مطالبةً بمحاسبة المسؤولين على الثغرات التي سمحت بنجاح الضربة، وبمراجعة العقيدة الأمنية التقليدية التي اعتبرت أن الحرب مع "إسرائيل" ستبقى في نطاق الحلفاء. وتنامى داخل المجتمع الإيراني شعور بالقلق من عجز الدولة عن تحصين الرموز السيادية والعلمية، لاسيما مع اغتيال قادة من الصف الأول في الحرس الثوري داخل العاصمة طهران.
مع ذلك، سارع النظام الإيراني إلى توظيف الحدث في إعادة صياغة خطابه السياسي الداخلي، متخذاً من "الوحدة في مواجهة العدوان الخارجي" شعاراً لتجاوز الإحراج الأمني، وتحصين الجبهة الداخلية ضد الانقسام. وقد تمّ رفع "العلم الأحمر" فوق مقامات دينية، بما يحمله من رمزية الثأر في الثقافة الشيعية، وإعادة إنتاج صورة الدولة المحاصَرة لكنها صامدة، في محاولة لاستعادة المبادرة النفسية والمعنوية.
لكن التحدي الأكبر أمام طهران لا يكمن في استعادة الردع العسكري فحسب، بل في قدرتها على ترميم الثقة الشعبية بأجهزتها الأمنية، واحتواء التهديدات المركّبة التي تجمع بين التخريب الداخلي والضغط الخارجي. فالحرب الحديثة لم تعد تُحسم فقط عبر تفوّق في عدد الصواريخ أو نوعية الطائرات، بل من خلال السيطرة على المعلومة، وتحصين المجتمع، ومنع العدو من النفاذ إلى شبكات الاتصال والتأثير السياسي والثقافي.
بناءً عليه، فإن أحد مخرجات هذه المواجهة سيكون إعادة النظر في الأجهزة الاستخباراتية وإصلاحها. ويُمكن القول بأن الضربة "الإسرائيلية" -رغم أضرارها- قد شكلت اختباراً مصيرياً للنظام الإيراني، أظهر مكامن الخلل، ويدفع باتجاه إصلاحات أمنية كان من الصعب طرحها دون حدوث مثل هذا العدوان. ومع أن إيران نجحت حتى اللحظة في احتواء آثار الاختراق على المستوى العملياتي، إلا أن المدى الطويل سيبقى رهين قدرتها على منع تكرار مثل هذه الخروقات، وبناء جبهة داخلية صلبة قادرة على الصمود في وجه حروب الجيل الجديد.

أترك تعليقاً

التعليقات