استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة وموقع اليمن والمنطقة منها
- أنس القاضي الثلاثاء , 16 ديـسـمـبـر , 2025 الساعة 6:38:13 PM
- 0 تعليقات

أنس القاضي / لا ميديا -
تعكس استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة الصادرة في ديسمبر 2025م، محاولة لإعادة إنتاج الهيمنة الأمريكية في ظل أزمة بنيوية للنظام الرأسمالي العالمي، عبر إحياء مبدأ «أمريكا أولاً» كصيغة قومية دفاعية تحمي مصالح رأس المال الأمريكي وتقلّص الالتزامات الخارجية غير المربحة. تمثّل الوثيقة تراجعاً عن العولمة الليبرالية لا نقداً لطابعها الاستغلالي، بل لعجزها عن ضمان التفوق الأمريكي في مواجهة قوى صاعدة، خاصة الصين.
تركّز الاستراتيجية على القومية الاقتصادية، وحماية الصناعة والطاقة، وإعادة التوازن التجاري، مع إعادة فرض السيطرة على نصف الكرة الغربي لمواجهة النفوذ الصيني والروسي، في استعادة محدثة لمبدأ «مونرو». كما تعبّر عن انتقال من منطق المواجهة المباشرة مع روسيا إلى إدارة الصراع لتخفيف كلفة الاستنزاف، ما يفضح تصدّعات التحالف الأطلسي.
في «الشرق الأوسط» وأفريقيا، يتراجع التدخل العسكري المباشر لصالح شراكات اقتصادية وأمنية أقل كلفة، مع استمرار التحكم بالممرات البحرية والموارد الحيوية، بينما يُدار اليمن كملف هامشي ضمن منطق «إدارة المخاطر»، وبصورة عامة، تكشف الاستراتيجية عن سعي إمبريالي لإدارة التراجع، والحفاظ على التفوق الاقتصادي والسياسي بأدوات أقل كلفة، في عالم يتجه نحو التعددية.
مركزية «الاستراتيجية» في السياسة الأمريكية
تأتي وثيقة استراتيجية الأمن القومي في صدارة الوثائق التي تُعرِّف الكيفية التي ترى بها الولايات المتحدة العالم، انطلاقا من كونها دولة إمبريالية تلعب دوراً عالمياً، فتحدد الاستراتيجية مصادر التهديد، وفرص القوة، وأولويات النشاط على المديين المتوسط والبعيد، وعلى خلاف الخطابات أو البرامج الانتخابية، فإن الاستراتيجية تُصاغ لتكون مرجعاً لـمؤسسات الدولة الأمريكية، المدنية والعسكرية والأمنية، وتُستخدم إطاراً عاماً لتوجيه السياسات التفصيلية في الدفاع، والخارجية، والتجارة، والطاقة، وغيرها من السياسات التي تربط الولايات المتحدة ببقية دول العالم، فهي تعكس مصالح الطغم المالية الأمريكية والدولة ذاتها، وما السياسة الخارجية التي يجب اتخاذها لضمان هذه المصالح.
تكتسب نسخة 2025م من الاستراتيجية -في ظل إدارة ترامب- أهمية خاصة لأنها تُجسِّد انعطافة واضحة عن النموذج الذي ساد منذ نهاية الحرب الباردة وحتى العقدين الأولين من الألفية الجديدة. فالوثائق الأقدم انطلقت من فرضية قيادة أمريكية لنظام دولي ليبرالي، يقوم على توسيع التحالفات والمؤسسات متعددة الأطراف، والترويج لاقتصاد عالمي منفتح، واستخدام خطاب «نشر الديمقراطية» في تبرير التدخلات الخارجية. أما الاستراتيجية الحالية فتنطلق من مسلَّمات مختلفة: العالم مكوَّن من دول قومية قوية تتنافس على الموارد والتكنولوجيا والأسواق، والتحالفات ليست قيمة في ذاتها بل تُقاس بمدى توافقها مع المصلحة الأمريكية المباشرة، والعولمة الاقتصادية بصيغتها السابقة لم تعد مكسباً صافياً للولايات المتحدة، بل تحوَّلت إلى آليات تنقل القوة إلى منافسين جدد، هذه النقلة من «هندسة نظام عالمي» إلى «إدارة تنافس بين كتل كبرى» هي ما يمنح الوثيقة طابعها الخاص.
في الظاهر الاستراتيجية تحد من دورها الخارجي ولكن من حيث الجوهر الاستراتيجية تدافع عن منطقة الدولة الإمبريالية، التي تميل ضمن المنافسة إلى الحصول على فوائد أكثر مقابل هدر أقل، بعيداً عن المُثل القديمة التي كانت ترفعها، وهذه المثل التي تبنى عليها تدخلات كانت تجلب فوائد للولايات المتحدة لكن الفوائد تراجعت على مر السنين، مع بروز أقطاب جديدة وتحول داخل العالم الغربي الذي لم يعد غرباً واحداً بل أقطاب غربية الولايات المتحدة جزء منه لا الكل فيه.
الأسس الأيديولوجية «أمريكا أولاً» كعقيدة كونية
يظهر مفهوم السيادة في استراتيجية 2025م بوصفه الإطار المركزي الذي يُعاد من خلاله تعريف دور الدولة الأمريكية في العالم، يبرز المفهوم كأداة لاستعادة القدرة على التحكم في القرار السياسي والاقتصادي بعيداً عن القيود التي فرضتها المؤسسات الدولية والتحالفات الواسعة، وتدور الفكرة الأساسية حول استرجاع سلطة الدولة الأمريكية على حدودها وأسواقها ومواردها، في مواجهة ما تعتبره واشنطن «تنازلات» قدمتها خلال مرحلة العولمة لصالح القوى الصاعدة، ومن هنا، تتخذ السيادة طابعاً صلباً، قائماً على رفض أي التزامات لا تحقق مكاسب مباشرة، وإعادة هندسة العلاقة بين الداخل والخارج بحيث تكون الأولوية المطلقة لتأمين المجال الوطني وحمايته من النفوذ الاقتصادي والسياسي الخارجي.
القومية الاقتصادية
تعيد الاستراتيجية الاعتبار للقومية الاقتصادية باعتبارها حجر الزاوية للأمن القومي؛ فالمنافسة اليوم، كما تقدمها الوثيقة، لا تُحسم فقط بالقوة العسكرية، بل بقدرة الدولة على التحكم في الإنتاج والتكنولوجيا والأسواق.
وتؤكد الوثيقة أن الولايات المتحدة لن تستطيع الحفاظ على وضعها العالمي ما لم تستعد تفوقها الصناعي، وتستعيد الصناعات التي جرى نقلها إلى آسيا، وتبني سلاسل توريد داخلية أو ضمن دول حليفة موثوقة.
وتكشف هذه المقاربة عن تحول جوهري في التفكير الأمريكي: الاقتصاد لم يعد مجالاً منفصلاً عن الأمن، بل عنصر مكمّل لمنظومة الردع. ومع هذا التحول، تتقدم سياسات الحمائية، وفرض الرسوم، وتقييد الاستثمارات الأجنبية، ودعم الصناعات المحلية، كأدوات استراتيجية تهدف إلى إعادة توجيه الاقتصاد ليخدم القوة القومية الأمريكية أولاً.
تراجع العولمة
تضع الوثيقة حداً للمرحلة التي اعتبرت فيها الولايات المتحدة العولمة مشروعاً استراتيجياً يعزز قيادتها للنظام الدولي. فما تعرضه الاستراتيجية هو قراءة نقدية مفادها أن العولمة الصناعية والتجارية، بصيغتها السابقة، أضعفت القاعدة الإنتاجية الأمريكية وسمحت بتشكل مراكز قوة منافسة اعتمدت على السوق الأمريكي لتقوية قدراتها. وتُعامِل الاستراتيجية تفكك العولمة بوصفه أمراً واقعاً لا خياراً، وتدعو إلى إعادة بناء اقتصاد عالمي أكثر «مركزية» حول الولايات المتحدة وشركائها. ويظهر هذا المنطق في الدعوة إلى إعادة تشكيل النظام التجاري، وتحديث قواعد الاستثمار، وبناء بدائل للبنية التحتية العالمية التي باتت الصين أحد أهم مهندسيها، وبذلك، تتحول نهاية العولمة الليبرالية إلى نقطة انطلاق لمشروع أمريكي جديد يقوم على التنافس لا على الدمج الاقتصادي الشامل.
الهجرة بوصفها تهديداً استراتيجياً
تتعامل الاستراتيجية مع الهجرة، خصــــوصاً عبر الحدود الجنوبية، بوصفها تهديداً يمس الأمن القومي مباشرة. فالهجرة في الوثيقة ليست مسألة إنسانية أو اجتماعية، بل قضية ترتبط بالأمن الداخلي، واستقرار المدن الحدودية، وتوازن سوق العمل، والهوية الوطنية، وحتى قدرة الدولة على إدارة مواردها. وتعتبر الوثيقة أن الهجرة غير المنظمة تُستخدم أحياناً من قبل خصوم الولايات المتحدة كأداة ضغط سياسي، أو كوسيلة لإضعاف التماسك الداخلي. لذلك، تدعو الاستراتيجية إلى تشديد الرقابة على الحدود، وبناء منظومات تقنية متقدمة للمراقبة، وعقد ترتيبات أمنية صارمة مع دول العبور، والتعامل مع شبكات الاتجار بالبشر والمهربين كخصوم استراتيجيين لا كمجرمين. وهذا التوسع في تعريف التهديد ينسجم مع تحوّل الأمن القومي الأمريكي نحو رؤية أكثر راديكالية للداخل الأمريكي بوصفه جبهة من جبهات الصراع العالمي.
تراجع مركزية «الشرق الأوسط» في الاستراتيجية الأمريكية
تعيد الاستراتيجية الجديدة تعريف موقع «الشرق الأوسط» داخل سلّم الأولويات الأمريكية، معتبرة أن أهمية الإقليم قد تراجعت مقارنة بعقود الحرب الباردة ومرحلة ما بعد 11 سبتمبر، ويعود هذا التراجع إلى سببين رئيسيين: أولاً، تحوّل الولايات المتحدة إلى منتجٍ ومصدّر للطاقة بفضل الثورة الصخرية، ما قلل اعتمادها على نفط الخليج. وثانياً، تركيز واشنطن على صعود الصين والمنافسة في نصف الكرة الغربي، وهو ما يتطلب إعادة توزيع الموارد العسكرية والدبلوماسية. وبهــــــذا يتوقف «الشرق الأوسط» عن كونه محوراً يومياً للسياسة الخارجية الأمريكية، ويصبح فضاءً يتم التعامل معه وفق منطق «إدارة المخاطر».
أمن الممرات البحرية والمضائق الحيوية
تؤكد الوثيقة على أهمية حماية سلاسل التوريد العالمية، وضمان حرية الملاحة، ومواجهة أي تهديد يمكن أن يعطّل تدفّق الطاقة أو التجارة الدولية. ومن خلال هذا الإطار، يُفهم أن مضيق هرمز وباب المندب وقناة السويس تُدرج ضمن النقاط الحساسة التي ترى واشنطن أنّ استقرارها ضروري للحفاظ على الدور الأمريكي في الاقتصاد العالمي وفي أمن الممرات البحرية. ولهذا تتجه الولايات المتحدة إلى تبنّي وجود بحري مرن قابل للتعزيز عند الحاجة، بدلاً من نمط الانتشار العسكري الواسع الذي ميّز المراحل السابقة، فتراجعها من المنطقة لا يعني التخلي عن هذه الممرات الحيوية.
احتواء إيران بدل مواجهتها المباشرة
تتبنى الاستراتيجية مقاربة مختلفة تجاه إيران، تعتمد على «الاحتواء الذكي» لا المواجهة الشاملة. ويعود ذلك إلى إدراك واشنطن أن إسقاط النظام الإيراني أو الدخول في حرب مفتوحة سيؤديان إلى كلفة اقتصادية وسياسية عالية، إضافة إلى فوضى إقليمية يصعب السيطرة عليها. وبدلاً من ذلك، تسعى الولايات المتحدة إلى تقليص نفوذ إيران في الإقليم عبر أدوات غير مباشرة -دبلوماسية، واقتصادية، وتحالفية- مع الإبقاء على خطوط منع التصعيد مفتوحة. ويعكس هذا التحول رؤية أكثر براغماتية تقوم على إدارة النفوذ بدل محاولة القضاء عليه.
أمن «إسرائيل» في إطار مختلف
تظل حماية التفوق العسكري لـ«إسرائيل» مبدأ ثابتاً، إلا أن الاستراتيجية تشير إلى تحول في طبيعة هذا الالتزام، فواشنطن لم تعد راغبة في الانجرار إلى حروب مفتوحة بالنيابة عن «إسرائيل»، أو تحمل كلفة تدخلات واسعة، خاصة بعد التحولات المعقدة في غزة والمنطقة. وبدلاً من الانخراط المباشر، تركز الولايات المتحدة على تطوير قدرات «إسرائيل» الذاتية، وتعزيز التعاون التكنولوجي والاستخباراتي، وضبط سلوك الإقليم بما يمنع نشوب حروب طويلة الأمد، وهذا التوازن الجديد يعكس رغبة أمريكية في تجنب التورط المفرط، مع الإبقاء على حماية التحالف التقليدي.
تراجع سياسة تغيير الأنظمة وصعود منطق الاستثمار
تُعلن الاستراتيجية بوضوح انتهاء مرحلة التدخلات الكبرى التي اتسمت بها سنوات ما بعد 2001م، سواء عبر الغزو المباشر، أو إعادة تشكيل الأنظمة السياسية بالقوة. بدلاً من ذلك، تتبنى واشنطن منطقاً يقوم على الشراكات الاقتصادية والتكنولوجية، والدخول في مشاريع استثمارية في الطاقة المتجددة، الموانئ، أمن الحدود، والتكنولوجيا الدفاعية. ويعكس هذا التحول رؤية أكثر تراكمية تقوم على بناء نفوذ عبر الاقتصاد والاستثمار، لا عبر التدخل العسكري. كما ينسجم هذا النهج مع صعود منافسين مثل الصين، الذين يستخدمون البنية التحتية والاستثمار بوصفهما أدوات استراتيجية.
تحولات أولويات الولايات المتحدة تجاه دول الإقليم
تتبدل درجة الاهتمام الأمريكي بين دول «الشرق الأوسط» وفق موقع كل دولة في شبكة المصالح الجديدة. فدول الخليج -خصوصاً السعودية والإمارات- تحافظ على موقع متقدم بفضل ثرواتها، وأسواقها، وتحولاتها الاقتصادية التي تتجه نحو الطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي. بينما تظل مصر والأردن في موقع الشريك الضروري لضبط توازنات غزة وسيناء والحدود. أما سوريا ولبنان واليمن فتقع على هامش الأولويات، إلا في ما يتعلق بأمن الممرات البحرية أو النفوذ الإيراني أو الاستقرار الإنساني. هذا التفاوت يعكس مقاربة تقوم على «انتقائية النفوذ» بدل الشمول.
منطق إدارة الأزمات بدل حلها
لا تتوقع الاستراتيجية حلّاً جذرياً لصراعات المنطقة، سواء في فلسطين أو سوريا أو اليمن، بل تعتمد على إدارة طويلة الأمد للأزمات بما يمنع انفجارها ويُبقيها ضمن الحدود القابلة للضبط. ويمثل هذا التحول قطيعة مع أيديولوجيا «صنع السلام» التي روّجت لها الإدارات السابقة. فالمهم بالنسبة للولايات المتحدة هو عدم السماح بتحول أي أزمة إلى تهديد مباشر لمصالحها البحرية أو الطاقية أو التحالفية.
باب المندب كعنصر حيوي في معادلة الممرات العالمية
تتعامل الاستراتيجية مع البحر الأحمر وباب المندب بوصفهما جزءاً من شبكة الممرات الحيوية التي تربط آسيا بأوروبا والولايات المتحدة، أكثر من تعاملها مع اليمن كدولة ذات مشروع سياسي مستقل. فباب المندب يُقدَّم في النصوص الأمريكية كـ»نقطة اختناق» تؤثّر في حركة التجارة العالمية، وفي أمن الطاقة القادم من الخليج باتجاه أوروبا والولايات المتحدة، وفي سلامة خطوط الملاحة التي تعتمد عليها سلاسل التوريد الدولية. ومن هذا المنظور، يصبح اليمن مجالاً جغرافياً يجب ضبطه والتحكّم في مخاطره، لا فاعلاً سياسياً يمتلك حقوقاً سيادية كاملة على ممرٍ دولي يمرّ عبر مياهه الإقليمية، هذه المقاربة تجعل من أمن المضيق أولوية أمريكية ثابتة، حتى في سياق تراجع الأهمية النسبية لـ»الشرق الأوسط» في سلّم الأولويات.
التنافس الأمريكي - الصيني في الممرات البحرية
تضع الاستراتيجية التنافس مع الصين في قلب رؤيتها لإدارة البحار والممرات العالمية، الأمر الذي يمنح البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن أهمية خاصة في الحسابات الأمريكية. فالتوسع الصيني في البنى التحتية للموانئ، وشراكاتها الاقتصادية والأمنية في القرن الأفريقي، يُنظر إليه بوصفه جزءاً من شبكة نفوذ بحرية تربط المحيطين الهندي والهادئ بالبحر المتوسط عبر مسار «الحزام والطريق». وبناء على هذه المبادئ، يظهر اليمن -بموقعه على واحد من أهم الممرات الدولية- كنقطة يمكن أن تتحول إلى ركيزة في هذا المسار إذا خرجت من الفضاء الاستراتيجي الأمريكي -الخليجي. ولهذا تميل واشنطن إلى تثبيت حضور بحري وتحالفات أمنية مرنة في الممرات المقابلة للسواحل اليمنية، بما يحدّ من قدرة الصين على تحويل هذه المنطقة إلى فضاء تنافسي مفتوح أو توظيفه في تعزيز نفوذها البحري.
موضع اليمن في أمن الطاقة والتجارة العالمية
يظهر اليمن، في ضوء المبادئ العامة للاستراتيجية، كحالة تجمع بين هشاشة داخلية وموقع جيواقتصادي بالغ الحساسية. فالبيئة اليمنية تُفهم ضمن إطار التهديدات غير النظامية التي يمكن أن تتوسع في غياب دولة قوية: جماعات مسلّحة، اقتصاد حرب، أنشطة تهريب، وأنماط من الارتباط الإقليمي، وفي الوقت نفسه، يقع اليمن على مفصل بحري ينعكس اضطرابه مباشرة على حركة التجارة العالمية، وكلفة التأمين والشحن، وسلاسل التوريد التي تعتمد على البحر الأحمر وباب المندب كقناة أساسية للربط بين آسيا وأوروبا. ومن هذا المنظور، تتحدد أهمية اليمن في الحسابات من خلال موقعه على أحد الممرات التي يقوم عليها النظام التجاري العالمي.
آثار الاستراتيجية على الوضع في اليمن
لا تُظهر الاستراتيجية اتجاهاً لاعتبار اليمن ملفاً مركزياً يتطلب استثماراً سياسياً كثيفاً من واشنطن، بل تميل إلى التعامل معه ضمن منطق «إدارة المخاطر» المرتبطة بأمن الملاحة ومكافحة ما يُصنَّف تهديداً إرهابياً أو صاروخياً - بحرياً. هذا يعني عملياً أن الصراع في اليمن المرتبط بالعدوان يُترَك في المرتبة الثانية أو الثالثة في أجندة السياسة الخارجية، ويُدار عبر الوسطاء الإقليميين (السعودية، الإمارات، الأمم المتحدة)، مع وجود محاذير أمريكية أي بدون إعطاء هذه الدول الاستقلالية التامة في التعامل مع الملف اليمني، فلأمريكا موقف من خارطة الطريق وضغط سابق على المملكة، ولهذا قد يستمر وضع اللاسلم واللاحرب فترة أطول.
الأمن البحري بوصفه مجال التدخّلات العدوانية
تُظهر نصوص الاستراتيجية وتغطياتها أن اللحظات التي يتحرك فيها الموقف الأمريكي أكثر تكون مرتبطة غالباً بهجمات على السفن أو تهديدات صاروخية وبحرية في البحر الأحمر وخليج عدن. أي أن «الأمن البحري» هو المدخل («الإسرائيلي» -الأمريكي) الأساسي للتعامل مع صنعاء والسواحل اليمنية، أكثر من كونه مدخلاً لتسوية سياسية يمنية - سعودية ويمنية - يمنية. وهذا يخلق مفارقة: فكلما زادت قدرة صنعاء على التأثير في خطوط الملاحة، ارتفعت أهميتها الأمنية في الحسابات الأمريكية، لكن من زاوية الضغط والردع، لا من زاوية الاعتراف السياسي بدورها في معادلة النظام الإقليمي، أو اهتمام بإنهاء ملف الحرب في اليمن ودخول البلد طور السلام وإعادة الإعمار.
علاقات واشنطن بالرياض وأبوظبي في ضوء الاستراتيجية
تُبقي الاستراتيجية على السعودية والإمارات بوصفهما الأداتين الرئيسيتين لإدارة الملف اليمني، لكن ضمن سقوف جديدة. فواشنطن لا تسعى إلى العودة إلى نمط الحرب الشاملة المفتوحة كما كان في بدايات العدوان، بل تدفع باتجاه ترتيبات «إعادة تموضع» تُقلِّل الانخراط المباشر، وتترك مهام الضبط الميداني لقوى محلية مدعومة من الرياض وأبوظبي، مع استعداد أمريكي للتدخل حين تمسّ التطورات أمن الممرات أو خطوط الطاقة. وفي هذا الإطار، يميل الموقف الأمريكي إلى تشجيع حلول تُخفِّف الكلفة على الحليفين الخليجيين، حتى لو كانت نتيجتها تفكيكاً جزئياً للوحدة الجغرافية أو إنتاج ترتيبات حكم متعدّدة المراكز داخل اليمن بما في ذلك مشاريع الفدرالية أو الانفصال، طالما أن هذه الترتيبات تُبقي البحر الأحمر وباب المندب ضمن فضاء نفوذ صديق.
ملامح السياسة الأمريكية القادمة تجاه اليمن
يمكن تلخيص الاتجاهات العامة للسياسة الأمريكية المحتملة تجاه اليمن في ضوء هذه الاستراتيجية في عدة خطوط رئيسية:
- استمرار تهميش البعد السياسي الشامل لحلّ الأزمة، مقابل التركيز على ملفات محددة: أمن الملاحة، الصواريخ، النفوذ الإيراني المفترض، والهجرة غير النظامية.
- الاعتماد المتزايد على ترتيبات أمنية بحرية متعددة الأطراف (تحالفات بحرية، أطر «حماية الملاحة»، تعاون استخباراتي)، بدلاً من التورط في الصراع مباشرة.
- تفويض أوسع لحلفاء إقليميين لإدارة تفاصيل المشهد اليمني البري، مقابل احتفاظ واشنطن بحقّ التدخل عند أي تهديد للممرات أو للقواعد الأمريكية في المنطقة.
- التعويل على حلول «جزئية» أو «مؤقتة» تُبقي اليمن في حالة لا حرب شاملة ولا سلام مستقر، بما يضمن درجة من السيطرة على المخاطر، من دون دفع ثمن بناء تسوية تاريخية مكلفة سياسيّاً.
بهذه الصورة، يظهر اليمن في الاستراتيجية الأمريكية كفضاء وظيفي أكثر منه كقضية سياسية -تاريخية تتطلب معالجة جذرية؛ فضاء تُقاس أهميته من منظور أمني بقدرته على تعطيل أو تأمين مفصل استراتيجي في النظام التجاري العالمي، وملف مسلم لدول الإقليم بوصفها وكيلاً، وهو نفس الوضع الذي كان عليه اليمن سابقاً، قبل أن تصبح لأمريكا سياسة مباشرة في اليمن مع مكافحة الإرهاب عام 2000م وتطورات الأحداث التي أعقبت العام 2011م.










المصدر أنس القاضي
زيارة جميع مقالات: أنس القاضي