محور «طهران - موسكو» الأوراسي
- أنس القاضي الأثنين , 1 أغـسـطـس , 2022 الساعة 8:18:09 PM
- 0 تعليقات
أنس القاضي / لا ميديا -
جاءت زيارة بوتين إلى إيران بعد زيارة بايدن إلى الكيان الصهيوني والسعودية من حيث التوالي والترتيب الزمني. هذا هو الجانب التكتيكي منها؛ لكنها أعمق من ذلك بكثير، وهي ترتبط بالسياسة الاستراتيجية القومية الروسية، أي باستراتيجية “محور طهران - موسكو”، كما حددها المفكر والفيلسوف الروسي الكبير ألكسندر دوغين، الذي يُعد من كبار علماء السياسة والجيوبولتيك (الجيوسياسي) في العصر الراهن. تهدف تصورات دوغين إلى إنشاء قوة عظمى أوراسية من خلال اندماج روسيا الاتحادية مع الجمهوريات السوفييتية السابقة في الاتحاد الأوراسي الجديد.
وقد بدأت معركة روسيا من القرم ثم إقليم دونستيك شرق أوكرانيا بناءً على تصوراته النظرية للدولة الروسية وتوصياته للرئيس فلادمير بوتين.
من وجهة نظر الثوابت الجيوبولتيكية تتمتع إيران بالنسبة لروسيا بالأولوية في هذه المسألة، لأنها تستجيب لجميع المعايير الأوراسية، فهي دولة قارية كبرى، ترتبط ارتباطاً شديداً بآسيا الصغرى، وهي معادية بصورة جذرية لأمريكا، وقادرة على إيصال روسيا إلى الهدف الاستراتيجي التاريخي، وهو الخروج إلى المياه الدافئة، وكسر الحصار الأطلسي المفروض عليها منذ بداية التوسع البريطاني القديم. ويرى الروس أن الشعوب الإسلامية -وفي طليعتها إيران- حلفاء أوفياء يتطلعون إلى ضرب الهيمنة الأمريكية الغربة الأطلسية.
أما على المستوى التكتيكي الآني فتتعلق الزيارة بالتوافق على معدلات إنتاج النفط. المقترحات الروسية في مفاوضات الملف النووي المتوقف مؤقتاً تتمثل في فتح الممر بين الشمال والجنوب، والذي يربط روسيا بالهند عبر إيران، وتوقيع مذكرة عملاقة للغاز بقيمة 40 مليار دولار تخطط بموجبها شركة “غاز بروم” للاستثمار في حقول الغاز في كيش وشمال بارس وجنوب بارس التي فشلت كل من فرنسا والصين في الحصول على امتيازات فيه، والاستمرار في إطار ما يسمى “صيغة أستانا” للتسوية في سورية، وإشكالية الوجود التركي الأمريكي في شمال سورية، وقضية حزب العمال الكردستاني الذي يمثل تهديداً من وجهة نظر تركيا، وقضايا الأمن الغذائي وتصدير الحبوب الأوكرانية.
القمة أيضاً تحمل رسالة عودة روسيا إلى الشرق بالتزامن مع الانحسار الأمريكي، وهو ما تعهد بايدن بأنه لن يتم. وتأتي في ظل وصول المحافظين في إيران إلى الحكم، والذين يضعون التعاون الاستراتيجي مع روسيا على رأس أولوياتهم، وفي ظل العقوبات الأمريكية الغربية على كل من إيران وموسكو معاً.
التصورات الاستراتيجية
بناءً على تصورات دوغين فإن سياسة روسيا في الاتجاه جنوباً يجب أن تعتمد على حلف قاري راسخ مع القوة التي تتجاوب استراتيجياً وأيديولوجياً وثقافياً مع التوجه الأوراسي العام المعادي للأمركة ومبدأ العدو المشترك التي تتعامل معه روسيا كثابت أساسي في سياستها هذه.
يرى دوغين -وكذلك الروس، ومن قبلهم البلاشفة بقيادة فلاديمير لينين- أن المنطقة الإسلامية واقع جيوبولتيكي صديق لروسيا؛ لأن التقليد الإسلامي أكثر سياسية، أي ثورية، وفي نقطة جوهرية هي أن الإسلام يرى استحالة الجمع بين الأمركة والدين من الناحية الروحية، فيما دول الناتو الأطلسية ينظرون إلى العالم الإسلامي في عمومه كعدو محتمل، وهو ما يجعل الشعوب الإسلامية أكثر ميلاً وقرباً من الموقف الروسي الراهن وكذلك الموقف السوفييتي السابق. وتاريخياً اهتم فلاديمير لينين في آخر أيامه بشعوب الشرق والعالم الإسلامي، وكان يعتبر أن مركز الثورة العالمية انتقل إلى بلدان الشرق، خاصة بعد مقاومة ألمانيا للمد الشيوعي وإجهاض الثورة الاشتراكية هناك. السياسة الجديدة لالكسندر دوغين هي إعادة بناء السياسة السوفيتية التي صممها فلاديمير لينين، فيما الخلاف أن روسيا كانت أممية وتحركها العقيدة الأيديولوجية في ذلك الوقت وكان لهدف نشر الاشتراكية في العالم، فيما روسيا اليوم قومية هدفها بناء إمبراطوريتها الأوراسية وتأمين محيطها بتحالفات دولية مع دول مستقلة من الهيمنة الغربية ترعى المصالح المشتركة في الإبقاء على الاستقرار في منطقة آسيا الوسطى الموحدة دينياً المتعددة عرقياً.
بناءً على معرفة الطبيعة الإسلامية النافرة من الهيمنة الأمريكية ومعرفة التصورات الأطلسية المعادية بطبيعتها للشعوب الإسلامية، والتي هي استمرار للنهج التوسعي الصليبي، فإن الروس يرون أن الشعوب الإسلامية وفي طليعتها إيران حلفاء أوفياء يتطلعون إلى هدف وحيد: ضرب الهيمنة الأمريكية الغربية على هذا الكوكب ووقفها الشامل في المستقبل.
وفي هذا الإطار يتمنى دوغين لو أن هناك عالماً إسلامياً متكاملاً يمتد كمنطقة جنوبية من آسيا الوسطى حتى أفريقيا الغربية، وتكون موحدة من الناحية الدينية ومستقرة سياسياً وتقيم سياستها على مبدأ الوفاء للتقاليد والروحية.
يرى دوغين أن الإمبراطورية الإسلامية في الجنوب ستكون العنصر الأهم في الأوراسيا الجديدة. إلا أن العالم الإسلامي وفق تقييم دوغين مشتت (تم تأليف الكتاب عام 1999، ولا يزال التشتت قائماً) إلى حد بعيد، وفي داخله اتجاهات أيديولوجية وسياسية مختلفة، بالإضافة إلى مشاريع جيوبولتيكية يناقض أحدها الآخر. والاتجاهات التالية تمثل الأكثر شمولية من بينها:
ـ الأصولية الإيرانية (ذات النمط القاري، وهي معادية لأمريكا، معادية للأطلسية وفعالة من الناحية الجيوبوليتيكية).
ـ النظام العلماني التركي (ذو النمط الأطلسي).
ومن الواضح حسب تقييم دوغين أن الأقطاب الأطلسية الصرفة في العالم الإسلامي، سواء أكانت “علمانية” (كما في حالة تركيا) أم إسلامية (كما في حالة المملكة السعودية)، لا يمكنها أن تؤدي وظيفة القطب الجنوبي للأوراسيا (الإمبراطورية الروسية)، وتتبقى “الأصولية الإيرانية” و”العروبية” ذات الاتجاه اليساري هي الخيار الأنسب.
وبطبيعة الحال فقد مر 25 عاماً على كتاب دوغين، والسعودية اليوم تميل قليلاً إلى المحور الروسي ـ الصيني مقارنة بموقفها السابق عند تأليف الكتاب، ويظل هذا التغيير في السياسة السعودية من الولايات المتحدة محدوداً وغير مستقر وقابلا للتبدل بعودة السعودية إلى المحور الأمريكي الأطلسي مجدداً. كما أن هناك تغيرات، فالعراق وليبيا العروبة ذات الاتجاه اليساري قد سقطا وخرجا عن معادلة دوغين، فيما تغير موقف اليمن من التبعية للمحور الأمريكي إلى مناهضة الإمبريالية الأمريكية الأطلسية الصهيونية، وكذلك سورية التي أحبطت العدوان الكوني وجذرت سياستها المعادية للولايات المتحدة.
من وجهة نظر الثوابت الجيوبوليتيكية تتمتع إيران بالنسبة لروسيا بالأولوية في هذه المسألة، لأنها تستجيب لجميع المعايير الأوراسية، فهي دولة قارية كبرى، ترتبط ارتباطاً شديداً بآسيا الصغرى، وهي معادية بصورة جذرية لأمريكا، تقليدية، وتركز في الوقت ذاته على الاتجاه السياسي والاجتماعي (نصرة المستضعفين)، وعلى خارطة الأرض تحتل إيران ذلك الموقع الذي يجعل إقامة محور موسكو ـ طهران يحل عدداً ضخماً من المشاكل بالنسبة للإمبراطورية الروسية الجديدة، فبإدخاله إيران قطباً جنوبياً في الإمبراطورية يمكن لروسيا أن تصل على الفور إلى بلوغ الهدف الاستراتيجي التاريخي وهو الخروج إلى المياه الدافئة.
وهذا الأفق الاستراتيجي في الخروج إلى المياه الدافئة -الذي لم تحققه روسيا سابقاً- كان الورقة الرابحة الأهم في يد الجيوبوليتيكا الأطلسية منذ أيام إنجلترا الاستعمارية التي هيمنت كلية على آسيا والشرق مستخدمة بالذات عامل انعدام وصول روسيا إلى الشواطئ الجنوبية للقارة.
وجميع المحاولات الروسية للخروج إلى البحر الأبيض المتوسط عبر البوسفور والدردنيل كانت طموحاً إلى المشاركة في التنظيم السياسي للمناطق الشاطئية لأوراسيا، حيث ينفرد بالسيطرة الإنكليز الذين كانوا يحبطون كافة محاولات التوسع الروسي، من خلال هيمنتهم على المنطقة الساحلية، غير أنه حتى ولو قيض لروسيا أن تفلح في ذلك فإن السيطرة الأطلسية على جبل طارق ستظل دوماً عقبة في وجه العمليات البحرية الحقيقية الكبرى، وما كان لها أن تسمح لروسيا بتحطيم القوة الإنكليزية، ولذا فإن بمقدور إيران وحدها -القريبة قارياً من روسيا والمشرفة مباشرة على المحيط الهندي- أن تكون الحل الجذري لهذه المعضلة الجيوبوليتيكية الكبرى. وستكون أوراسيا، وقد حققت الوصول الاستراتيجي إلى الشواطئ الإيرانية والقواعد الحربية -البحرية بالدرجة الأولى- في مأمن تام من تحقيق الخطة الأطلسية التقليدية في خنق روسيا عبر احتلال المناطق الشاطئية على امتداد أوراسيا وبخاصة إلى الجنوب والغرب.
وإقامة محور موسكو ـ طهران سيخترق الحصار الأطلسي على الإمبراطورية الروسية ويفتح لروسيا آفاقاً لا حدود لها نحو الحصول على جسور جديدة وجديدة داخل أوراسيا وخارجها، وتلك هي النقطة الأكثر جوهرية من وجهة نظر دوغين.
إيران من الناحية الجيوبوليتيكية هي آسيا الوسطى. وعلى موسكو، كمركز لأوراسيا، أن تسلم لإيران، في إطار الإمبراطورية الجديدة، رسالة إقرار نفوذها في هذه المنطقة وإقامة حلف جيوبوليتيكي آسيوسطوي قادر على مواجهة التأثير الأطلسي في المنطقة بأسرها.
وإيران المعادية تقليدياً لكل من تركيا والمملكة السعودية ستنهض بهذه المهمة بطريقة أفضل بكثير مما يمكن أن ينهض به الروس، الذين لن يحلوا مشاكلهم الجيوبوليتيكية في هذا المركز المعقد إلا بالمؤازرة الاستراتيجية للجانب الإيراني. ويتحدث دوغين عن أهمية بناء “إمبراطورية آسيا الوسطي”، التي يمكنها على أسس فيدرالية أن تقيم التكامل بين مختلف الشعوب والثقافات والإثنيات في حلف جيوبوليتيكي جنوبي موحد، وتصوغ بذلك التشكيل الإسلامي المتجانس استراتيجياً والتعددي إثنياً وثقافياً والمرتبط أوثق الارتباط بمصالح كامل الإمبراطورية الأوراسية.
المرجع:
ألكسندر دوغين: أسس الجيوبولتيكا - مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي، ترجمة: عامد حاتم، دار الكتب الجديدة المتحدة، بيروت، ط1، 2004 (نشر الكتاب لأول مرة في العام 1999).
المصدر أنس القاضي
زيارة جميع مقالات: أنس القاضي