عبدالمجيد التركي

عبدالمجيد التركي / لا ميديا -
ليست مجرد أحجار مرصوفة فقط.. إنها وصايا الآباء والأجداد.. لم يكونوا بحاجة إلى إخبارنا عن ضرورة الحفاظ على هذا التماسك.. ففي كل حجر أرى غزارة العرق، وكرم الجباه، وإخلاص الأصابع.
أضع رأسي على المخدة، بعد تعب يوم طويل، فلا أستطيع منع أصابعي من التسلل إلى استوديو الهاتف لأتصفح صور شهارة التي التقطتها في آخر زيارتين.
لا أستطيع النوم دون أن تكون شهارة حاضرة بين جفني وعيني.. ودون أن أستحضر رائحة أحجارها وشوارعها بعد المطر.
ها أنا أشم رائحة باب بيتنا.. هذا الباب الخشبي الذي يحتفظ برائحة أسلافي وبصمات أصابعهم، وبركاتهم.. أشم رائحة أبي.. أغمض عينيَّ وأقبّل موضع يده على الباب، وأتحسس صوته بين جدران البيت.
في المرة الأخيرة سافرت لإصلاح سقف الغرفة التي كان يسكن فيها أبي.. كانت الغرفة الوحيدة التي سقط سقفها.
امتلأت الغرفة بالأخشاب والأسمنت والحجارة، ما عدا البقعة التي كان ينام فيها أبي لم يسقط عليها شيء، رغم أنه غادرها واستبدلها ببيت كبير في صنعاء منذ أربعين عاماً.
الخشب الجديد الذي وضعناه على السقف لا يعرف أبي.. ولا أظنه سيسقط في يوم ما، لأنه لم يورق بصوته، ولم يشهد حقيقته.
أضع 40 عاماً من عمري تحت المخدة، وأخرج بالسبع السنوات الأولى أتمشى في شوارع شهارة بقدميَّ الصغيرتين، وألمس جدران البيوت فتتذكَّر يدي.
أشعر أن يديَّ صارتا أجنحة، وأنني أرى شهارة من الأعلى بعيني طائر.
هكذا أصبحت شهارة، آيلة للانهيار بكل شواهدها وآثارها ومآثرها، دون أن يلتفت لهذا الانهيار أحد.
في بداية التسعينيات قامت عناصر تنتمي لتيار متشدد بغزوة ليلية لتدمير شواهد القبور. هذه الشواهد منحوتة على الأحجار منذ مئات السنين، وهي واحدة من آثار وكنوز شهارة.
تلك الشواهد متناثرة في مكانها، منذ التسعينيات، ومازالت باقية رغم تشظيها، ولا تحتاج إلا إلى علبة غراء لتلصيقها وإعادتها إلى مكانها، لكننا جميعاً -شعباً وحكومةً- لا نعرف أهمية ما نمتلكه، ولا نولي حضارتنا أي اهتمام، ولذلك صارت آثارنا ومخطوطاتنا معروضة في مزادات العالم.

أترك تعليقاً

التعليقات