أبي المتدفق كالماء
 

عبدالمجيد التركي

عبدالمجيد التركي / لا ميديا -
حفر أبي “بئر المخرَط” بعيداً عن شهارة، في قرية لا تعنيه ولم يسكن فيها، ودفع كل ما ورثه عن جدي من أجل أن يتدفق الماء لأهالي تلك المنطقة الذين كانوا يتوارثون الجفاف والعطش، وكان المتخمون يسخرون من أبي كما سخروا من نوح وهو بانتظار الطوفان.
كان مستعداً أن يحفر البئر بأظافره كي لا يخيب ظن تلك العيون المتعبة التي كانت تعلق كل لمعانها على أبي.
ستمائة ريال فرانصي، “ماريا تريزا”، هي كل حصته من تركة جدي، لم يتدفق الماء إلا بعد أن أخرج آخر ريال من جيبه، وعاد فقيراً، لكن يديه وجيوبه امتلأت بدعوات البسطاء واطمئنانهم بعد أن هزموا شبح العطش بشربة ماء.
مازال هذا الماء يتدفق منذ 52 عاماً حتى اللحظة، ولأن أبي كان تاجراً فقد وضع كل ثروته في هذه البئر، وحين عاتبه البعض بأنه أضاع رأسماله أشار إلى ابتهاج الناس بالماء وقال: هذه ثروتي، وهذا الماء رأسمالي الذي لا ينفد.
أشعر بالحرج من أبي حين أتحدث عنه، لأنني أخفي أشياء كثيرة لن يصدقها الكثير من الناس، وأشعر بالحرج لأنني لا أساوي شيئاً بجانبه إلا ما تساويه حصى صغيرة أمام جبل.
لم تكن حياتنا في شهارة ثرية بالتفاصيل، لكنها مليئة بالشجن والمحبة التي تجعل الجدران تورق، وسيرة ثلاثة إخوة -أبي أكبرهم- كانوا يلمسون لون الليل بأصابعهم وهم يطرقون باب الله، وكانوا يخوضون بأقدامهم في أنهار من الضوء، فيعودون بعد أن يطووا الحبل الذي اعتصموا به كي لا يراه أحد ويتحدث عنهم، وفي أيديهم لقمة معجونة بالحمد والشكر كتحريز لها من الزوال، رغم حرصهم على غمسها في إدامٍ حلال.
كل الأساطير أؤمن بها حين أتذكر أبي، لأنه كان كذلك، فقد بقيت رائحة التفاح تملأ غرفته لأشهر، رغم أننا في فصل الشتاء.

أترك تعليقاً

التعليقات