ورد الليل
 

عبدالمجيد التركي

عبدالمجيد التركي / لا ميديا -
في "شهارة" ليس هناك أزهار توليب ولا غاردينيا.
لم أكن قد سمعت عن النرجس البري والَّليلك والأوركيدا إلا حين قرأت نصوصاً نثرية تعاني من غربة المكان، وصغر نفوسها التي تتأفف من الواقع، ومن الانتماء واللهجة، وتتنصل من قُرم الدخن والملوج والذمول، فالحداثي لا بد أن يكتب عن البورجر والباشاميل، وأكلات إيطالية وإسبانية لا أعرف أسماءها، ولا أحب استيرادها إلى تنورنا الحطب.
حين أدخل مطعماً لا أتحرج أن أغسل يدي، وآكل بها.. لأن ملاعق المطاعم مصابة بالتهابات اللثة، هذه الملاعق تعرف أفواه العابرين وأسنانهم ولعابهم الأصفر.. لذلك أقبّل يدي بعد تناول الطعام...
لست حداثياً إلى حد أن أغير لهجتي، وأخجل من اسم منطقتي، وأنكر الحارثي والسنيدار والآنسي وأبو نصار، تزلفاً، من أجل إرضاء أطراف لا تستحق سوى البصق في وجوهها.
ولست حداثياً إلى حد أن أتخلى عن اللحوح وخبز الذرة الصفراء والدخن، والمعصوبة، والسلتة، والشفوت.. فأنا نشأت في قرية لا تعرف الزربيان ولا المحشي، ولا ملفوف ورق العنب.
هذه شهارة.. مدينتي التي مازالت روحي تتمسح بأحجارها كما يفعل المريدون في العتبات المقدسة..
كنت أجري في هذه الشوارع وأسابق الريح.. كان أبي يرسلني إلى البيت لأحمل شيئاً لأمي، فيغمس إصبعه في الماء ويقول لي: عُد قبل أن تجف إصبعي.
تلك الصندقة المبنية من الصفيح كنت أقف أمامها مندهشاً، كأنني أشاهد مدينة العجائب.. كانت مليئة بالحلويات والسكاكر، وأبو ملعقة، ومثلث، وأبو نجمة، وكعك الحمدي، وبسكوت ميزان، وبسكوت جلوكوز، و(بسكوت الأفراح، أخذ عقلي وراح)، وأبو عودي أبو قلب أحمر، والتمرية البريطاني أبو 12 حبة، التي كنا نسميها «بلح»، وسنكرس، ومارز، وأصابع جوز الهند.. وكان لعابي يسيل حين أتأمل علبة سيريلاك.
لم أندهش حين دخلت السوق الحرة في الكويت وفي دبي وفي بيروت وتونس، كما كنت أندهش حين أقف أمام هذه الصندقة، وكنت أرى في أحلامي أنني أمتلك واحدة مثلها، للاستهلاك وليس للبيع.
في شهارة.. ليس هناك أوركيدا ولا توليب.. هناك ورد الليل فقط.
هذا الورد يتفتح حين تغرب الشمس، وكنت أراه في الصباح الباكر وهو ينغلق بصورة مدهشة كأنها من خيال هوليود..
ورد الليل، كان يحرس خطوات آبائي وأجدادي، المشائين في الظُّلَم، وهم يدلكون أصابعهم بالتسبيح، ويملأون خطواتهم بالاستغفار، رغم أنهم لم يقفوا في موقف خطيئة، فمنذ طفولتهم وأصابعهم تصافح المصاحف، وألسنتهم مبلولة بذكر الله.. فقد كان بيتنا يصحو قبل الفجر، وكانت أصوات المستغفرين بالأسحار تملأ الغرف والنوافذ كأنها خلية نحل.
في هذه الشوارع كنت أمشي بجوار أبي وأنا قابض على «جزء عم»، وبعد أشهر قليلة كنت أحمل«ربع يس»، وأشعر أنه كان يردد الأوراد في الطريق من أجل أن تحفظها الأحجار المرصوفة على طول الطريق، فقد كنت أوقن أن للأحجار ذاكرة، وأن لورد الليل عطراً لا يبوح به إلا حين يمر أبي من جواره.

من ««كتاب شهارة»» (تحت الطبع).

أترك تعليقاً

التعليقات