هل هو زمن عودة «العمليات الخارجية»؟
- موسى السادة الثلاثاء , 27 مـايـو , 2025 الساعة 1:09:56 AM
- 0 تعليقات
موسى السادة / لا ميديا -
عام 1971، أصدرت «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» كتاب «الهدف»، طرحت في عدده الثاني موضوع «الجبهة الشعبية والعمليات الخارجية»، استعرضت فيه منطق الجبهة نفسه، وردّها على ردود الفعل المتفاوتة حول عملياتها الخارجية، والتي بدأت بشنّها منذ تموز 1968، وشملت خطف طائرات، وعبوات ناسفة على شركات وسفارات «إسرائيلية» في أوروبا.
ركّز ردّ الجبهة على استعراض مبادئها الرئيسية حول تعريف ماهية العدو وطبيعته، وأن معسكر العدو يضم الثلاثيّ: «إسرائيل»، والحركة الصهيونية، والإمبريالية العالمية والرجعية العربية؛ وهو بطبيعة الحال التشخيص الدقيق للصراع؛ وعليه تبني الجبهة موقفها بأن نطاق الاستهداف يجب أن يشمل جميع أطراف معسكر العدو بدون ضابط الجغرافيا؛ لأن العدو بذاته يتخذ العالم كله مسرحاً للصراع.
يقوم المنطق الثاني للجبهة حول المسألة الإعلامية، والحشد للثورة الفلسطينية، وفي كون العمليات التي قامت بها، وبعكس ما تُتهم به من تشويه، قد أدّت في حقيقة الأمر، وعبر الصخب الذي أنتجته، إلى إيصال القضية بصوتها الفلسطيني إلى العالم. وهذه العمليات، كما يضيف الكتيب، هي «الإعلام الثوري الذي ينزع الشمع عن الآذان الأوروبية». في تلك المرحلة، كان هذا البعد الإعلامي محرّكاً أساسياً لفدائيي هذه العمليات؛ ففي الوصية الجماعية لشهداء عملية ميونخ، خريف 1972، أكّد الفدائيون: «نبتغي من عملنا الثوري أن يفهم العالم حقيقة الدور البشع للاحتلال الصهيوني على بلادنا، وأن أسلوبنا الثوري يرمي إلى فضح العلاقات الصهيونية الإمبريالية».
كان كل من الشهداء والجبهة على حقّ؛ فقد لعبت هذه العمليات من الناحية الإعلامية دور الصرخة، في ظل واقع الهيمنة شبه المحكمة للصهيونية وسرديتها على الأدوات الإعلامية الكلاسيكية. ولذلك، شعر العرب والفلسطينيون بسببها بحالة من الاختناق، ولم يكن هناك سبيل للصراخ سوى باللحم الحي. وعليه، وكما عبّر الشهيد نزار بنات: «نزلوا الفلسطينيين خبط في السبعينيات، ولذلك كان العالم متعاطفاً معنا، يتعاطف معنا عندما كان الفلسطيني يضرب».
لا يختلف وضعنا اليوم عن الأسس التي يقوم عليها منطق الجبهة، بل لم يكن معسكر العدو، بأقطابه الثلاثة، أكثر تعطّشاً للدماء كما هو الآن. وكذلك، أثبت منطق الجبهة الإعلامي صوابيته من جديد؛ أن الكفاح المسلح هو الإعلام الثوري الأجدى. إلا أن المختلف في مرحلتنا أن أدوات الاتصال والإعلام مكّنت من جعل العمل المسلّح على الأرض المحتلة وسيلةً مركزية. فمن يظن أن الانقلاب من ناحية هيمنة الصورة والسردية لمصلحتنا ضد الصهيونية هو نتيجة استفاقة لضمير عالمي بسبب هول الإبادة، فليتخيّل معنا مشهد استسلام المقاومة في غزة ودخول جيش العدو وتولي سلطة رام الله على غزة، ماذا ستكون السردية حينها وهي تُكتب من قبل العملاء والمتعاونين مع «إسرائيل»؟!
في واقع الأمر، تمثّل ظاهرة المثلثات الحمراء اليوم حالة انزياح كبيرة لأول مرة نحو احترام المقاومة المسلحة وتقديرها بشكل أوسع نطاقاً مما حصل للـ»فيت كونغ» الفييتنامية والـ(FNL) الجزائرية. فرغم الاختلاف الأيديولوجي الواسع بين الواقفين مع فلسطين، بل بين الفلسطينيين والعرب أنفسهم، ففي الأخير «كلهم مثلثات»، كما عبّر صديق. ما تصونه كمائن المقاومة هو الوصفة القاتلة للصهيونية، والعاجزة عن التعامل معها، وهو مزيج موقفنا من مفهومَي «البطولة والمظلومية»، الذي نعبّر فيه عنهما كليهما دونما تناقض. تصبّ في السياق ذاته العمليات اليمنية، التي تندرج، بمعنى تاريخي، ضمن العمليات الخارجية؛ ففي حين كانت تزرع نهاية الستينيات عبوة في مكتب شركة الملاحة الصهيونية «زيم» في لندن، فإن عمليات اليمن تصيب عصب الشركة بأكملها.
إلا أن مسألتنا الأساسية والقاهرة، اليوم، أن هذا الانقلاب في السردية، وعلى أهميته الاستراتيجية الكبرى ضد الصهيونية، لا يوقف الإبادة، وهو الهدف الطارئ والمركزي لكل منا اليوم. وإن نجح اليمن في الاشتباك المباشر مع الأمريكيين والإضرار بمصالحهم، إلا أن غاية إخضاع العدو للكفّ عن الإبادة لم تُحقّق بعد. بالعودة إلى كتيّب الجبهة، فإنه وبالنسبة إلى استراتيجية العمل، علينا «اعتناق مبدأ التكیّف مع الظروف الموضوعيّة للمعركة ولمعطیات أو لطبيعة العدو وأدواته».
من هنا، وبرغم الألم والغضب، تخيّل أنه وبعد عقود سنتساءل: كيف أوغل الأوغاد الصهاينة في دمائنا ولم نكن «وراءهم في كل مكان»؟!
إلا أن المسألة تحتاج إلى تشخيص ونقاش استراتيجي للمعركة؛ إذ إن من الدروس المستفادة من كتيّب الجبهة، هو طرح استراتيجية الصراع للنقاش، وهو أمر افتقدته حركات المقاومة في ظل فيروس التشبيح والتطبيل، وكانت له نتائج كارثية. وللمفارقة، أشار الكتيّب إلى قدرة العدو على «دفع بعض المخدّرين بسموم الطائفية أو الإقليمية والمكاسب الشخصية» (كان يومها لفظ الطائفية في الأدبيات السياسية العربية مختلفاً تماماً عنه اليوم ويشير إلى الحزبية).
المسألة هنا شائكة، والمجادلة في أن ضررها أكثر من نفعها له رجحان، حيث تعيد تذخير سردية الصهيونية أن حربها هي استمرار للحرب العالمية على الإرهاب، ما يزيد التوغّل في الحرب. ومسألة استنفار الغرب على أن استمرار الإبادة قد هدّد استقراره الداخلي، هو سيناريو ركيك. ولو أن مسألة استهداف الجنود والمستوطنين في الأرض العربية والدول المطبّعة أمر لا مساومة ولا مناورة فيه، بل في الحقيقة قد تأخّر كثيراً.
تتلخّص أهدافنا في هذه المرحلة القاسية في ثلاث غايات: إيقاف الحرب، الانسحاب من غزة، ورفع الحصار. سبيل تحقيقها هو في كسر اليمين «الإسرائيلي» ونتنياهو. ومن ناحية داخلية «إسرائيلية» لا سبيل إلى ذلك عبر استغلال تناقض داخلي صهيوني، سواء بورقة الأسرى أو غيرها، فالكتلة الصهيونية الراجحة هي خلف نتنياهو، ولذلك يكون اغتياله، في هذه المرحلة، مفيداً جداً وحاسماً. إنما يقع مفتاح هذا الكسر في الخارج، ولدى طرف آخر من معسكر العدو، هو الإدارة الأمريكية، وفي بعد شخصي في ترامب. عليه، يكون سؤال العمل هنا هو الضغط على الأمريكيين وإجبارهم على لجم كلبهم المسعور.
ليس في جعبتنا بعد عامين من الحرب الكثير من الأدوات لتحقيق ذلك، وقد أسأنا استخدام الكثير منها، نتيجة اجتهادات خاطئة في قراءة الحرب. ما بقي لدينا هو الضغط الذي يولده الإجرام الإبادي الصهيوني على مسألة العلاقات العامة وصراع السردية والإعلام والرأي العام العالمي (تجب الإشارة إلى أن الإبادة وإن ولّدت نفوراً وغضباً من الصهيونية عالمياً فللمفارقة قد أنتجت خوفاً ورعباً من الإطار الجماهيري العربي خارج غزة، كما لدى الأنظمة، ورغبة جبانة بالنجاة والهروب). إن الدور الضاغط لهذه الأداة ضئيل، وإن كان يزيد وينخفض بنسبة مئوية أو اثنتين كل فترة، من الخطأ الرهان عليه، فالوقت من دم ومن أشلاء أطفال، وقد حسم الصهاينة والأمريكيون أمرهم أن الضرر في الصورة وقع، وعليهم تجاهل اعتباره، وهم في هذه الأيام في أشد استشراسهم.
أداتنا الأخرى هي اليمن، والذي يبلي بلاء حسناً، بل إن من أهم خصاله هو السعي الحثيث نحو اختلاق أي طريقة للضغط على العدو. ولعل أحد أكبر دلائل أن اليمن فاعل ثوري هو أن القرار السياسي ممزوج بالمشاعر الغاضبة والاستنفار، وأن دم صاحب القرار يغلي من المشاهد في غزة.
أمّا الأداة الأخيرة، فهي صمود غزة نفسها والمقدرة الأسطورية لمقاوميها على إيذاء العدو. وهو صمود تعاني الصهيونية من معضلة في اختلاق استراتيجية لكسره أو تفتيته. جنونهم الإبادي منعهم اليوم من اختلاق مساحات للفك بين أهل غزة والمقاومة، ففي الأخير الاثنان، وحتى من هو ضد حماس، يعلمان أن مصيرهما مشترك، وهو في تأمين الأسرى. وبالنسبة إلينا، من فينا له وجه أن ينظر في عيون أهل غزة ويقول: اصمدوا أكثر!
ضمن هذا التشخيص الاستراتيجي، فإن على كل منا دعم هذه الأدوات الثلاث: الضغط العالمي، ودعم تحصين جبهة اليمن، ودعم صمود غزة، ولو بالكلمة وبالمال وبأي سبيل وسعي حثيث كالسعي اليماني. وإن كان جواب سؤال ما العمل خلال العقد القادم يقع في إعادة تفعيل صندوق أدوات الانتفاضة الثانية، فإن سؤال اللحظة هو: هل ينتج استمرار جنون نتنياهو تفعيلاً لصندوق أدوات ما قبلها، وبشكل عدمي، في ظل انسداد الأفق؟
كاتب عربي
المصدر موسى السادة
زيارة جميع مقالات: موسى السادة