السلع الاستعمارية أساس تقدم الغرب
 

كارلوس شهاب

كارلوس شهاب / لا ميديا -

في الكتابات عن السلع الاستعمارية التي أمنت أساساً اقتصادياً انعكس على المستويات في الحياة الغربية، نال السكر حصة الأسد من الإنتاج المكتوب وحتى المرئي، ما دره من أرباح ودعة على السيد الأبيض وما جلبه من نقمة ونكال على الأسود المقتلع من جذوره. لكن السكر لم يكن وحده بطل قصة إرواء "العطش المقدس" لأوروبا. هنالك سلع أخرى مازالت متداولة بين أيدينا، وإذا استنطقناها فإنها ستروي لنا حكايات الهيمنة والعبودية والنهب.
لنبدأ من الكاكاو الـ"ثيوبروما كاكاو" وصنعيته "الشوكولاتة". يجرنا المفهوم قسراً إلى النظر صوب أوروبا و"ماركاتها" الشهيرة بهذا المجال. لكن الشوكولاتة لم تكن يوماً هناك ولم يعرفها الأوروبيون المتحضرون قبل عصر الاستعمار، فقد زرعها واستخدمها بمثل استخداماتنا الحالية تقريباً شراباً أو عجينة "الشعوب البداية" في أمريكا الوسطى بدايةً من الأولميك (1500 ـ 400 ق.م) وصولاً إلى الأزتيك التي انهارت بالاستعمار الإسباني. شأنها شأن كل ما يُهيمن عليه المستعمِر دخلت الشوكولاتة بمكوناتها الخام وبمنتجها النهائي في جيب المستعمِر ومنذ أول يوم لدخولها هذا الحيز كان الاستعباد مرتبطاً بها.
فقبل أن يُنشئ اليسوعيون مزارعهم المنظمة على العبودية الأفريقية ـ الأمريكية اعتمد البرتغاليون على جمع ثمار الثيوبروما من الغابات بواسطة استعباد التوبي (سكان سواحل باهيا). وإذا كان السكر والتبغ والأرز يعتمد على العبيد البالغين الأشداء أصحاب الخبرة فإن الكاكاو كان يتيح استخدام المستضعفين من المهد.
شكلت إسبانيا والبرتغال القناة التي دخلت من خلالها الشوكولاتة إلى أوروبا وعُرفت كمشروب للبلاطات الملكية ونساء الطبقة الأرستقراطية، ومن هنا بدأ السباق الأوروبي للسيطرة على هذه السلعة. نقل المستعمِرون شتلات الكاكاو إلى الأماكن الاستوائية التي استعمروها، إذ نقلتها بريطانيا وفرنسا والبرتغال إلى أفريقيا ونقلها الهولنديون إلى جزر الهند الشرقية، ونُقل مع الشتلات نظام العبودية الاستعماري والعمل بالسخرة لكل الفئات العمرية.
وفي أفريقيا نشأ ارتباط بين سواد الشوكولاتة ولون البشرة الأفريقية من خلال أسماء المنتجات "قبلات الزنجي" (Negerküsse)، و"رأس الموري/ المغربي" (Mohrenköpfe) التي يبدو أنها تسللت للعربية الدارجة مع تحويل الموري/ المغربي إلى "العبد" أو من خلال صور الدعايات الفرنسية التي احتوت على صور أفارقة يقدمون الشوكولاتة لقارئ الدعاية الأوروبي دلالة على ما تسخره الإمبراطورية من قوة عمل "الآخر" لإرضاء مواطنها.
ولا تزال حتى وقت قريب شركة "نستله" الرفيعة التي أسسها أحد المتسابقين على الشوكولاتة في القرن التاسع عشر (فرانسوا لويس كيلر) تستخدم الأطفال في إنتاج الشوكولاتة التي تصدرها لكل أنحاء العالم، ناهيك عن أنها متورطة في كم هائل من اغتيالات الصحفيين والمحققين الذي حاولوا الوصول إلى مصادرها وآلية عملهم، تلك الآلية التي نشأت في القرن السادس عشر ولا تزال سارية حتى وقتنا هذا والتي ترسي علاقة بين منتجين فقراء مستعبدين في جانب من المعمورة ومستهلكين مترفين في الجانب الآخر.
ومن الكاكاو إلى الأرز. وما يجعل الأرز مختلفاً عن الأول أن الأرز كان معروفاً للكل في عهد ما قبل الاستعمار إلا أنه مع استعمار الأمريكيتين دخل في الحيز الاستعماري. وعندما يتم ذكر "الأرز الاستعماري" فالمقصود هو الأرز الأفريقي الذي احترفه الأفارقة لآلاف السنين على ضفاف أنهارهم. نُقل الأخيرون مع خبرتهم في زراعة الأرز إلى العالم الجديد، ونشأ طلب كبير في سوق نخاسة كارولينا الجنوبية على شعوب يولا ويوروبا وإيغبو وماندينغ الماهرة في زراعة الأرز، وارتفعت أسعارها في السوق. سلعة تُنتج سلعة! هكذا نشأ مثلث تجاري عملاق بين مستعمرات بريطانيا العظمى وأوروبا الغربية عماده الأرز الأفريقي وقوة العمل الأفريقية.
في شرق الكرة الأرضية كان للهيمنة الاستعمارية على الأرز مفعول أشد كارثيةً على المقهورين، فبعد كساد عام 1929 ظلت فرنسا على سياساتها الحمائية الاقتصادية واحتكار استغلال الموارد الطبيعية للهند الصينية وإبقاء الضرائب على وضعها وطلبها بعملة المستعمِر، وهذا ما جعل الفلاح في الهند الصينية مجبراً على الاتجاه صوب إنتاج المحاصيل النقدية لتوفير الضرائب بدلاً من الزراعة الغذائية، وعليه تضخمت زراعة الأرز المعد للتصدير والذي يدر في رحلته المكوكية الربح في باريس، بينما انخفضت الإنتاجية الغذائية وصولاً للعام 1944 عندما ضربت الأعاصير، والهجومات الأمريكية، الخطوط التجارية الفيتنامية. قاسى بين (1 ـ 2) مليون فيتنامي (لفرنسا إحصائية أخرى، أقل بالطبع ولا أعرف إن كانت إحصائيات الجلاد يؤخذ بها) قاسوا الجوع حد الموت، بينما كانوا يزرعون الأرز الذي لم يكن لإطعامهم.
لو جمعنا الأرز والكاكاو والسكر والكثير غيرها من السلع الاستعمارية، لو جمعناها معاً فلربما سنشكل موضوعاً يُقرّب الإجابة على سؤال: "لماذا تقدم الغرب وتأخر الآخرون؟".

* كاتب وباحث عراقي.

أترك تعليقاً

التعليقات