مخلوق آخر..!
 

ابراهيم الوشلي

#إبراهيم_الوشلي / #لا_ميديا -

هذا السطر الأول من المقال، وأنا الآن أقوم بكتابته بروح خائفة ويد مرتجفة وأفكار مضطربة، لم يسبق قبل اليوم أن شعرت بهكذا شعور، إذ لأول مرة يبدو لي قلمي صغيراً حقيراً ضئيلاً لهذه الدرجة أمام الموضوع الذي يريد كتابته، إنه أشبه بنملة مسكينة ساقها القدر لمواجهة جيش من الأفيال، فوجدت نفسها تنتظر الموت في منتهى العجز والضعف.
حسناً، لنرَ ماذا سيكتب.
سمعت في صغري الكثير من الروايات عن اليأس، ذلك الشعور القاتل الذي يأخذ بتلابيب الإنسان ويطرحه أرضاً دون رحمة، يغتال كل مظاهر الحياة والآدمية في روح الضحية، فيحيلها إلى كتلة خاملة من اللحم والعظم لا تحتوي في كينونتها على ذرة إحساس حيوي.
مثلاً سمعت عن عاشق متيم حرمته التقاليد من معشوقته فلجأ مباشرة إلى الانتحار، وسمعت عن طالب مجتهد رسب في امتحاناته النهائية فذهب فوراً لشنق نفسه، وسمعت عن موظف فصلوه ظلماً من عمله فتحول إلى مشرد مختل عقلياً، وسمعت عن عبقري سجنه النظام البائد بسبب اختراع ما، فخرج من السجن مجنوناً فاقد العقل تماماً، ثم اختزل عبقريته تلك في اقتناص المارة على ناصية الطريق ومطاردتهم بالأحجار...
هؤلاء كلهم داهمهم اليأس، وفقدوا كل اتصال بالرجاء، فمنهم من مات بالطريقة التقليدية، ومنهم من ماتت فيه الحياة بطريقة أخرى. جميعهم ماتوا وفقدوا نشاطهم الإنساني على أية حال.
بعيداً عن هذا الموضوع، دعني أحدثك عن برنامج «شاهد النصر» الخاص بنقل حكايات جرحى الحرب. شاركت رفيقي «علي الكبسي» تقديم البرنامج لفترة قصيرة من الزمن، إلا أنني رأيت فيها عظماء لا يعرف اليأس سبيلاً إلى قلوبهم، ربما لم يسمعوا في حياتهم كلها أن هناك كلمة عربية اسمها «اليأس»، أو ربما سمعوا بهذه الكلمة، لكنهم كانوا حينها مشغولين بتشكيل «الأمل» وفق إرادتهم كالصلصال، ولذلك لم يكترثوا.
كلما صادفت رفيقي وأخي «علي» في الآونة الأخيرة، عرفت أنني على موعد مع قصة جديدة لجريح عظيم جديد، فقد اعتاد إخباري دائماً بتفاصيل زياراته المتكررة إلى رعايات الجرحى الأبطال أخبرني بالأمس عن مجاهد ترك بيته وأطفاله وذهب مرابطاً في إحدى جبهات مأرب. كنت مع كل كلمة يقولها لي أشعر بأنني أصغُر أكثر، حتى انتهى بي الأمر حقيراً تافهاً كحبة «سمسم» تائهة في صحراء ليس فيها غير الرمل.
في لحظة من الماضي، كان هذا المجاهد مع بعض رفاقه يواجهون أرتالاً زاحفة من الدبابات والجنود. لم يتراجع أي منهم قيد أنملة. ترى رجلاً واقفاً بثبات يطلق الرصاص من بندقيته باستمرار حتى تتوقف تلقائياً، ثم يغير المشط سريعاً ويعاود اصطياد الأعداء بالثبات ذاته.
فاضت أرواح رفاقه وتساقطوا بجانبه شهداء واحداً تلو الآخر، ودون أن يتأثر واصل القتال بأشرس ما يكون، حتى تلقى رصاصة أردته جريح الجسد كليم القلب، ليتم أسره واقتياده إلى السجن من قبل أرخص مرتزقة في تاريخ الارتزاق.
لمدة عام ونصف العام، ظل يواجه الموت بشكل يومي. جرَّب كل الآلام، وعَهِد كل الأوجاع، وهزم كل أساليب التعذيب، ذلك أن السجان الجبان استخدم الحديد والنار والسوط والكهرباء، ولم يستطع أن يرسم في عينيه نظرة ضعف واحدة.
كانت الثقافة القرآنية تنير له ظلمات الزنازين، وولاؤه لقائد الثورة يشفي جروحه البليغة، وجرائم مملكة الإرهاب وقوى الطاغوت تزيده حقداً عليها، وحقده عليها يزيده صبراً وتجلداً، وهكذا طوال العام والنصف.
عندما تم الإفراج عنه بعملية تبادل بدأت قصة حزن طرية غضة. كان خروجه من السجن بمثابة الحرف الأول من أبجدية القهر والوجع.
حين خرج من البيت منطلقاً نحو ساح الوغى، ترك خلفه زوجتين وأطفالاً وفتيات. اليوم لم يجد من ذلك شيئاً، لا بيتاً ولا أهلاً. لقد خرج من الأسر ليجد نفسه وحيداً لا أنيس له، أحبابه الذين يفترض بهم أن يستقبلوه ويفرحوا بعودته لم يبق منهم أحد، كلهم كانوا شهداء بفعل صاروخ سعودي حاقد.
هذا الرجل لم ينتحر كما فعل أولئك، ولم يتأثر عقله نهائياً، بل كان عظيماً جداً جداً، أعظم من المصيبة التي حلت به، تراه يداوي جراحه ويقول مبتسماً إنه وهب أحبابه لله، وأن استشهادهم بهذه الطريقة المفاجئة ليس شيئاً كثيراً. ما يزال مقتنعاً أنه لم يقدم شيئاً يليق بالتضحية والعطاء في سبيل الله.
إنه مليء بالإيمان تماماً. روحه وقلبه وجسده، كل شيء مغمور تماماً، ومع ذلك يظل في كل ثانية تمر يمتلئ إيماناً، ولا ينسكب الإيمان الزائد خارجاً كما يفعل العصير إذا لم يجد له فراغاً شاغراً في الكأس. هذا الرجل لديه دائماً متسع للإيمان الذي يستقبله كل يوم.
لا شك في أنه مخلوق آخر، يختلف كلياً عن الإنسان العادي، ذلك الذي يشاهد محاضرة دينية واحدة حجمها (50 ميجا بايت) فيسارع قلبه بإصدار الإشارات: المساحة ممتلئة، لا مكان لذرة إيمان أخرى.
إنه يتنقل بلا هوادة بين عوالم ربانية إلهية لا تطالها النفوس الضعاف. لقد أعطى كل شيء بينما كان يتلقى التعذيب في مأرب، وما زال خجولاً من الله أمام تقصيره الكبير.
إن كنت تتساءل عن اسمه فأنا لم أكتبه، بناء على طلبه. يقول إنه لا يريد شهرة أو إعجاباً من أحد، فقط ينتظر التئام جراحه ليعود إلى ثغره المقدس. إنه عظيم لهذه الدرجة.
عندما تسمع عن شخصية كهذه، فمن المفترض ألّا تكتب. عليك فقط أن تستمر بالشعور بنفسك وأنت تصغر وتصغر وتصغر دون نهاية، غير أن قلمي المرتجف والخائف قرر الكتابة بغية إيصال القصة إليك، وها هو يخسر المعركة ويُداس كما خسرت النملة وسُحقت تحت أقدام الأفيال.

أترك تعليقاً

التعليقات