فهد شاكر أبو راس

فهد شاكر أبوراس / لا ميديا -
إن البناء النظري المتين لأي استراتيجية عسكرية هو المدخل الحقيقي لفك شيفرات الصراع وتوقع تحركات الأعداء. وفي سياق اليمن -الذي خاض ولا يزال- معركة وجودية مصيرية، يصبح فهم هذه الأسس النظرية بمثابة البوصلة نحو آليات المواجهة وتطوير أدواتها.
فالاستراتيجية العسكرية، التي هي اسم جماعي يطلق على عملية التخطيط لخوض الحروب، لا تقتصر على فن استخدام القوات في الميدان فحسب، بل تتعداها إلى اختيار اللحظة الحاسمة لإنزال الضربة القاضية بالعدو، وهي فن يتطلب فهماً عميقاً للزمان والمكان والإمكانيات.
لقد تطورت هذه المفاهيم عبر العصور من استراتيجيات مباشرة تركز على المواجهة المباشرة، إلى استراتيجيات معقدة تعتمد على فاعلية التخويف، التخريب، الإرهاق، والمباغتة، ما يجعل عملية تشريح الاستراتيجية المعادية ضرورة قصوى.
هذا التشريح يجب أن ينطلق من فهم المستويات الثلاثة للحرب: الاستراتيجي الأعلى الذي يحدد الأهداف السياسية الشاملة، والتشغيلي الذي يدير الحملات الكبرى ويربط الاستراتيجية بالتكتيك، والتكتيكي الذي ينفذ العمليات الميدانية المباشرة.
ولكي يتمكن اليمن من اختراق هذه المستويات، عليه أن يتمتع بـ»الإدراك الاستراتيجي» المتقدم، أي القدرة على استشراف اتجاهات الأحداث والتطورات، وإعادة بناء مرجعيات العمل على المستوى الاستراتيجي، وهذا يتصل بالتفكير الإبداعي وعملية صنع القرار.
فالمستوى الاستراتيجي الشامل للعدو يهدف إلى عزل اليمن دولياً عبر تشويه سمعته، عبر حرب نفسية وإعلامية مكثفة، وحصار دولي، ودبلوماسية ضاغطة، بهدف ضرب الحاضنة الشعبية، ونزع الشرعية عن موقفه المساند لفلسطين، لإجباره على التراجع عن سياساته المبدئية.
بينما على المستوى التشغيلي، سيسعى العدو إلى صنع ذرائع لاستهداف اليمن من خلال مزاعم القرصنة وشحنات السلاح المزيفة، بهدف تغيير واقع ميزان القوى في المنطقة لصالحه وإضعاف القدرات الدفاعية لليمن.
وأما على المستوى التكتيكي، فإن الأدوات المحلية في المناطق المحتلة ستقدم على تنفيذ عمليات قرصنة واستهداف للملاحة ونسبتها للقوات المسلحة في صنعاء، بهدف إرهاقها وشغلها بمواجهات جانبية، وتدمير الاقتصاد عبر عمليات عسكرية مباشرة وغير مباشرة، وحرب اقتصادية، واستخدام أسلحة حديثة مثل الطائرات المسيّرة والصواريخ ضمن ما يسمى «القدرات الدقيقة الشاملة».
ولمواجهة هذا الخطر المتعدد المستويات، يجب على اليمن أن يتبنى استراتيجية مواجهة متكاملة تبدأ بتعزيز «الإدراك الاستراتيجي» والوعي المبكر، من خلال تطوير نظام استخباراتي وتحليلي قادر على استشراف اتجاهات الأحداث وكشف المحاولات المبكرة لخلق الذرائع، مع التركيز على جمع المعطيات والمعلومات الضرورية من مصادر متنوعة لضمان المصداقية والموضوعية ومقاومة محاولات التضليل. كما أن اعتماد استراتيجية «الدبلوماسية الهجومية» يصبح ضرورة ملحة لفضح المخطط بشكل استباقي على جميع المنصات الدولية باستخدام أدلة دامغة، مما يشكل تطبيقاً للنموذج الاستراتيجي القائم على الضغط غير المباشر من خلال الخطاب السياسي والدبلوماسي لعرقلة المخطط المعادي وكسب المعركة الإعلامية العالمية.
ولا يمكن إغفال أهمية بناء تحالفات إقليمية ودولية قائمة على تقاطع المصالح لمواجهة التحالف المعادي، كوسيلة ناجعة في تحييد المواجهات المباشرة ذات الكلفة المادية والبشرية العالية، وخلق توازن استراتيجي يزيد من تكلفة أي مغامرة عدائية. كما يجب تعزيز الحصانة الداخلية من خلال تنفيذ خطة شاملة لمواجهة الحرب النفسية والإعلامية، عبر خطاب إعلامي موحد وشفاف يكشف زيف الروايات المعادية.
إن هذه الاستراتيجية المتكاملة ليست مجرد رد فعل على تهديدات آنية، بل هي رؤية استباقية تضع اليمن في موقع المبادرة، مستفيدة من تراثه النضالي وتجربته الميدانية في تحويل التحديات إلى فرص، وإثبات الإرادة الوطنية الحرة التي لا تقبل المساومة.
إن اليمن الذي صمد أمام أعتى التحالفات الدولية والإقليمية، وقادر على استنباط دروس النظرية الاستراتيجية وتطويعها لصالحه، هو اليمن الذي سيكتب فصلاً جديداً في تاريخ المقاومة والتحرر، وسيظل شامخاً في مواجهة كل المخططات التي تهدف إلى النيل من سيادته وكرامته ومواقفه الثابتة.

أترك تعليقاً

التعليقات