الغرق في جفنة عسل
 

رئيس التحرير - صلاح الدكاك

صلاح الدكاك / لا ميديا -
علينا ألا نتكئ كثيراً على الفروق بين حال شعبنا في جغرافيا السيادة وبين حاله في الجغرافيا المحتلة، فهذه الفروق رغم كونها شاسعة إيجاباً لجهة جغرافيا السيادة إلا أنها آيلة إلى زوال، وإذا لم نحتكم لسقف ما نطمح إليه في الغد ولم نعمل منذ اللحظة لوضع لبناته وتجذير مداميك تحقيقه، واتكأنا متطامنين إلى ما نحن عليه اليوم من واقع جيد قياساً بحضيض واقع الجغرافيا المحتلة فإن شعلة المشروع الثوري ستغدو بالتدريج عود كبريت واهنا أمام التحديات المتنامية وسيفقد المشروع زخمه وسطوة تأثيره الجماهيري وسنجد أنفسنا بالتدريج نظراء لمن نخوض الصراع في مواجهتهم كنقيض بالضد للمشروع الوطني.
السؤال هو هل بدأ العد التنازلي بالفعل لتلاشي الفروق بين نقيضي الصراع؟! وما هي فرص المشروع الثوري المواتية لمقاربة آليات تغيير استراتيجي صاعد؟ بالمراكمة على ما حققناه اليوم من مكاسب غير هيّنة هي عرضة للأفول بغلبة الموروث الوصائي ومراوحة الثورة في طور مواجهة تحديات الإدارة المؤسسية بمعزل عن ميدان فاعليتها الجماهيري وعبر هياكل دولة الوصاية نفسها... الأمر الذي تتسع معه المسافة بين القيادة من جهة والطبقات الشعبية صاحبة المصلحة الحقيقية في التحول الثوري من جهة أخرى.
إن طرَفي المعادلة الثورية اليوم هما قيادة حبيسة في معضلة البناء الفوقي الذي كان ينبغي نقضه منذ البدء ببديل ثوري مرن لجهة مقتضيات مرحلة المواجهة مع قوى العدوان الكوني وثابت لجهة إنجاز قطيعة استراتيجية مع بنية الوصاية وذهنياتها، وفي المقابل بناء تحتي شعبي -كان منطلقاً للثورة وزيتونة زيتها ووقود زخمها وبحر سفينتها ومرساها- وبات يجدّف في اختلاج تحديات المعيشة اليومية وفرعنة النافذين والمظالم والفساد الحكومي في واقع مثخن بسبعة أعوام عدوان وحصار؛ يشده اليأس بقوة إلى القعر أحياناً وينتشله حيناً وميض حلم تبرق به السماء وجبهة القائد، في حتمية الخلاص، وينهش قلبه شعور بخذلان الثورة له وتخليها عنه لولا إطلالة السيد القائد بين الحين والآخر على الشارع متحسساً مواضع آلامه بوعد تخليق روافع جدّية لآماله به ومعه.
هكذا يبدو طرفا المعادلة الثورية اليوم، وعلى أوتار هذا البَوْن يعزف العدوان الكوني والحصار وماكينات الهيمنة العالمية الإعلامية و"الأممية" والاستخبارية والسياسية، لذا يتعين على الثورة عاجلاً أن تجسر هذه المسافة بالعودة إلى بحر الشعب الشريف الصابر الصامد قبل أن تتحول إلى قطيعة بينها وبينه...
لقد كانت الثورة وجوداً حياً وحيوياً منظوراً ومجسداً في بحر الجماهير يتمظهر للحالمين والمقهورين قيماً مغايرة وصدقية غير مسبوقة وإيثاراً وزهداً لا سلف لهما سوى في مأثور سيرة الإمام علي عليه السلام، واليوم فإنها ينبغي أن تعود كذلك حركة لا تجنح لهجعة العرش ولا تختزل طموحات التحول الثوري في ملاحم رجال قضوا نحبهم صادقين بل تواصل الكدح الخلَّاق مع رجال ينتظرون صادقين وما بدلوا تبديلا.
ليست ثورة الـ21 من أيلول الفارقة مَن يقارب آلام وآمال الشعب من شرفة برج عاجي وعبر رزمة أوراق تسمى رؤية وطنية كسيحة حبراً وروحاً وتشخيصاً للراهن واستشرافاً للمستقبل!
ليست ثورة 21 أيلول من تُوكل لجلاوزة وشاويشات زمن الوصاية ومن التحق بركبهم من طفيليات ووصوليين مهمة تجسيد هويتها في مسرح العلاقة مع الشعب!
ليست ثورة 21 أيلول من تغض الطرف عن بطش بعض المحسوبين عليها بالمستضعفين أياً كانوا؛ تغليباً لحسابات القربى والرحم والمنطقة والوجاهة على مبدأ نصرة المظلوم والضعيف والضرب على يد الظالم والمتجبر غير هيَّابة لتبعات ولا لردّات فعل، فالمستضعفون هم محك خيرية المشروع القرآني ومجال تجسيده وأما المتجبرون وعِلية القوم فقد وجدوا دائماً وفي كل زمان من يتزلف جبروتهم ويقر لهم بعلو القدر ويستهجن كل خصيم مستضعف.
يا عهد أبي تراب كُن جمرة تكوي اليد الممدودة لخبز المفقرين ووجوه المستضعفين ولو كانت "يد عقيل" وكُن نسيماً يهب على ضيق الأكواخ وغيثاً يهطل في الأزقة لا ريحاً عقيمة تلفحهم من شرفة قصر وبركة أسماك ملكية تتزلف الكبار بزعانفها وألوانها ولا تنفع طعاماً للجائعين.
يا عهد حيدر كُن ذا فقار لا يقيده غِمد أريكة هجوع وثيرة وحسابة تاجر سُحت في زمن أصبح فيه جند معاوية عسلاً بجفنة حاشية مردت على النفاق.

أترك تعليقاً

التعليقات