رئيس التحرير - صلاح الدكاك

صلاح الدكاك / لا ميديا -

هناك نذر تشير إلى عزم أمريكي على تقويض اتفاق ستوكهولم بخصوص الحديدة واستدراج الاشتباك الى مياه البحر الأحمر مجدداً على نحو لا يفضي إلى إضرار عميق ومستدام بالمصالح الاقتصادية العالمية، وإنما إضرار محدود ومسيطر عليه يتيح لواشنطن فرض أحد أمرين: الأول تأليب اصطفاف دولي ناضج للقبول بمقاربة أمريكية عسكرية بغطاء أممي يصنف صنعاء الأنصار كتهديد للسلم والأمن الدوليين، وينظر إليها كطرف لا يمكن الوثوق فيه بوصفه ناكثاً لالتزاماته تجاه بنود ستوكهولم... هذا الاصطفاف الذي تستهدف واشنطن ومعها لندن تخليقه، تريد له بالدرجة الأولى أن يضم دولاً وازنة تعتقد أن اتفاق ستوكهولم هو الصيغة المثلى المقدور عليها لضمان أمن ممرات الملاحة في البحر الأحمر، والمضي لتحقيق اختراق في الداخل اليمني محوره جولات من مشاورات الحل السياسي بمبدأ الإقرار بعجز الآلة العسكرية للتحالف عن حسم الاشتباك لصالح ما يسمى الشرعية، كما والحاجة الملحة للاعتراف بصنعاء الأنصار كسلطة أمر واقع لا مناص من مد الجسور معها لجهة عديد ملفات أبرزها ملف الحديدة...
الأمر الآخر الذي تتوقع واشنطن فرضه كنتاج لخضّ الاشتباك في مياه البحر الأحمر، هو إعادة تدوير بنود اتفاق ستوكهولم بما يسمح لأمريكا بتمرير مشروع قرار يتضمن تأليف قوة عسكرية دولية بقيادتها تتولى إدارة أمن البحر الأحمر وباب المندب من الحديدة كسبيل لفض اشتباك بين (طرفي نزاع محلي غير راشدين) ونزع فتيل التهديدات البحرية القادمة من البر اليمني المشتعل بفوضوية مواتية لسيطرة داعش والقاعدة - بحسب استشراف منطق السيناريو الذي تدفع واشنطن صوبه - وعليه فإن بلوغ هذه النقطة من تخويض الاشتباك بحراً سيكون كفيلاً بقسر الدول المتبنية فعلياً لاتفاق ستوكهولم كمقاربة وحيدة ممكنة لإنهاء الصراع العسكري في اليمن، على الرضوخ للمقاربة الأمريكية وإفساح مظلة لها في هذا الاتفاق تجعل من المتاح تحوير بنوده إلى تأليف قوة دولية مسلحة بيد أمريكية طولى تتولى بسط السيطرة على الحديدة وموانئها امتداداً إلى باب المندب والمخا (أي احتلال بغطاء أممي) عدولاً عن الرقابة الأممية غير المسلحة والمبنية على ندية المبادرة من طرف صنعاء وقبولها بها كتنازل لوجه حلحلة الأزمة المعيشية والاقتصادية الناجمة عن عدوان التحالف وحصاره لليمن ونهب مواردها الطبيعية وريوع منافذها جواً وبراً وبحراً...
أين يمكن لأمريكا أن تهاجم لتسترد بعض هيبتها المهروسة بحذاء طهران في هرمز وبحر عمان، كما وانفضاح عجزها المزري لعيون عبدتها السعوديين والإماراتيين والصهاينة عقب حادثة ناقلتي النفط وإسقاط التجسسية الخارقة الأمريكية "غلوبال هوك" من قبل الدفاعات الجوية الإيرانية الأسبوع الفائت؟!
قال وزير خارجية بني سعود قبل عام: "اليمن هي الساحة المثلى للحرب على إيران ووقف تهديداتها للمنطقة"!
واليوم، يطلق رئيس حكومة العدو الصهيوني بنيامين نتنياهو، أوقح وأجلى تصريحاته المتعلقة بمقاربة إسرائيل لعدوان التحالف على اليمن، وما تعنيه له هذه الأخيرة من قيمة وجودية استراتيجية لا مناص من تعبيدها للوصاية مجدداً..
في مؤتمر صحفي ثنائي جمعه بجون بولتون، مستشار الأمن القومي الأمريكي، أمس الأول، في فلسطين المحتلة، قال نتنياهو: "حرب السعودية على اليمن هي ضمن معركتنا ضد فلسطين، وصواريخ الحوثيين على السعودية تهديد لتل أبيب"!
هناك ساحة حرب عسكرية مشتعلة في اليمن وإشعال حرب أخرى في الخليج ضد إيران تبدو خياراً انتحارياً ساذجاً بالنسبة لأمريكا؛ وإذن فإن هذه الأخيرة اكتفت كما كان متوقعاً بعقوبات اقتصادية مضاعفة و"حرب بلايستيشن" في مواجهة إيران على حافة هاوية كانت تبدو في الواجهة كما لو أنها مفضية إلى اشتباك وشيك واسع النطاق في مضيق هرمز وبحر عُمان قبل أن تعدل واشنطن عن التصعيد وتعاود المضي في خيارات الخنق الاقتصادي لطهران وتدعو اليابان والصين والدول التي لها مصالح حيوية في الخليج إلى حماية ناقلاتها بنفسها.. هذا العدول في اللحظة الأخيرة كان متوقعاً فليس لأمريكا من خيار سوى معاودة إشعال حربها المشتعلة على اليمن بحثاً عن ثغرة مواتية في مسرح لم تستطع آلة عدوانه العسكري تطويعه لصالح الغايات الاستراتيجية منه والمتمثلة في إعادة إنتاج الهيمنة الآيلة للأفول بالقضاء على المتغير الثوري اليمني واقتطاع مثلث الشرفة المائية الأهم المؤلفة من اعتناق البحرين العربي والأحمر على الضفة اليمنية.
لا ريب أن استراتيجية الرد والردع الراهنة التي دشنتها صنعاء علنياً بعملية الـ9 من رمضان على أرامكو في الرياض، ولاتزال ضرباتها شبه اليومية تسحق مفاصل المملكة،.. لا ريب أن هذه الاستراتيجية قد زعزعت حسابات وكيانات تحالف العدوان ومن ورائه أمريكا وإسرائيل وبريطانيا، بقوة، وجعلتهم يستشعرون عجزاً وجودياً متفاقماً وانحساراً لمعادلة الهيمنة الأحادية المطلقة لجهة متغيرات اشتباك باتت اليمن في محور مهندسيه والفاعلين فيه على الضفة النقيضة لمركز الهيمنة الكونية وأدواته...
غير أن التحالف الأمريكي لايزال يعتقد بأن اليمن هي الساحة المثلى للحرب على إيران، وترتيباً على مستجدات الردع اليمني الجديدة فإن العدو يرى أنه لاتزال ثمة خاصرة رخوة يمكن تحقيق اختراق نوعي جيوسياسي عبرها، والوصول إلى جوهر غاياته من العدوان كأقصر درب سالكة بمنظوره...
هذه الخاصرة الرخوة الافتراضية هي الحديدة ما بعد ستوكهولم، حيث أعاد جيشنا ولجاننا انتشاره أحادياً، وأفسح لفريق الرقابة الأممية مسرح نشاط قوامه جل المفاصل الحيوية في المدينة. وعوضاً عن أن يقابل العدو هذه الخطوة بمثلها، شرع يضاعف من تحشيداته العسكرية ويصعد من خروقاته تمهيداً لهجوم كبير على المدينة (الشاغرة ـ باعتقاده - من رجال الرجال) بغية احتلالها، وتمظهرت نواياه تلك عملياً بمعاودة استهداف بوارجه وطائراته لقوارب الصيد وقرى الساحل الغربي و.... تنفيذ زحف واسع على الجبلية في مديرية التحيتا، القريبة من مديرية الدريهمي المحاصرة حتى اللحظة، والتي لم يشفع لها اتفاق ستوكهولم ليعتقها من الحصار.
بالنسبة لأمريكا فإن الاتفاق الآنف في حساب التنصل ليس أكثر حرمةً من اتفاقها النووي مع إيران، وهي ترى أن التصعيد المباشر مع الأخيرة باهظ الكلفة، وتعتقد أن بإمكانها استفراغ قيمة هرمز الجيوسياسية من باب المندب، وبالنتيجة استفراغ القيمة الثورية لصنعاء من خلال اقتطاع البحر وزنزنتها في المرتفعات الشمالية لتموت ببطء مكبلة بلزوميات الاتفاق الذي سيتخلق بمقاربة أمريكية بكنف أممي كما تزمع واشنطن الدفع صوبه عبر تصعيداتها الفاضحة في الساحل الغربي والحديدة...
على أن هذا المكر الأمريكي المنطوي على نكاية ودهاء، سيقابله مكر يمني أنكى وأدهى قد خامر بعض وجعه حسبان العدو في صورة عمليات الرد والردع العسكرية المتلاحقة المنطوية على مناسيب وجع ليس في حسبانه ولا قدرة له على احتمال أكلافه الوجودية الباهظة. وإن غداً لناظر تحالف العدوان الكوني لقريب، والفعل أبلغ من كل قول، والعيان أجلى من كل استشراف.

أترك تعليقاً

التعليقات