رئيس التحرير - صلاح الدكاك

أطلق الشارع الجنوبي، أمس قبل الأول، رصاصة الرحمة في رأس ناقة شرعية الرياض الشائخة، حين خرج في تظاهرة حاشدة رفضاً لإقالة عيدروس الزبيدي من منصبه كمحافظ لعدن المحتلة.
بدا الأمر أقرب إلى انقلاب منه إلى انحياز لمحافظ دون آخر، فالحراك الجنوبي الذي انضوى تحت شرعية تحالف العدوان، وقدم نخبة من قادته العسكريين والآلاف من شبابه قرابين لعمليات التحالف على امتداد جبهات القتال من الساحل الغربي إلى الحد الشمالي و(نهم وصرواح)، وجد نفسه خالي الوفاض من كل مكسب، وعوضاً عن أن يستعيد (الدولة الجنوبية) انفصلت حضرموت برعاية إماراتية، وأطاحت السعودية بأحد أبرز قياداته من سدة محافظة عدن.
لجوء الحراك إلى الشارع مجدداً والانضواء تحت يافطة استعادة الدولة، هو محاولة لاستعادة الوزن الشعبي والهوية الناظمة لنشأة الحراك الذي فقد وزنه وملامحه خلال قرابة عامين من المقامرة الخائبة على طاولة تحالف العدوان؛ وخلافاً لتأويلات البعض، فإن توجهاً كهذا ليس أمراً محبذاً لدى الإمارات بحيث يجري تجييره لها على قاعدة خلافها (غير التناحري) مع السعودية.
بيان تظاهرة الخميس الفائت، التي أمكن للحراك استعراض عضلاته الجماهيرية خلالها على نحو جيد ولافت وغير متوقع، أقر بوجود تباين بين ما يستهدف هو تحقيقه من مصلحة جنوبية بالعمل العسكري، من جهة، وما تستهدف دول التحالف تحقيقه من مصالح تخصها من جهة ثانية، وقرر عدم الانخراط في أي تعيينات حكومية تصدر عن (الشرعية)؛ وشدد على وحدة أراضي (الجنوب)، ودعا ـ وهذا هو الأهم ـ إلى تشكيل (مجلس تنسيق أعلى للحراك) يحل محل المجلس السابق المنبثق عن انتفاضة العام 2007م؛ وبحسب مصدر مطلع فإن من المقرر أن يضع المجلس الجديد مؤسسات وأجهزة السلطة في الجنوب تحت إدارته حصراً، ويتولى شغلها بقرارات تعيين صادرة عنه، وفيما إذا شرع جدِّياً في تنفيذ كل ذلك، علاوة على إجراءات طور التكتم لم يشملها البيان، سيجد الحراك نفسه في صدام مباشر مع تحالف الاحتلال السعودي الإماراتي ذي النزوع التفتيتي المدعوم أمريكياً وبريطانياً.
على خلفية محاذير من هذا القبيل سارع علي سالم البيض ـ المحتجب عن الواجهة ـ إلى تطمين الإمارات بأن يدها ستبقى الطولى جنوباً، وانخرط موالو الشرعية في العويل مستمطرين غوث السعودية لشرعية مهددة بانقلاب آخر (مدعوم إماراتياً).
ثمة مسار واحد اليوم أمام الحراك للحفاظ على حجر علاقته بالتحالف من جهة وبيضة أحلامه في دولة جنوبية من جهة مقابلة، يتمثل في تأجير عضلاته الشعبية للتحالف مجدداً ولبضع جولات أخرى، ومشاغلة شارعه بعظمة الوعود إلى أجل غير مسمى، وحينها يكون قد قامر بوزنه الذي استعاده للتو من معاودة الاتصال بجماهيره، وأوقع نفسه ثانية في فخ فقدان القيمة لدى ذراعي تحالف الاحتلال الإماراتي والسعودي كليهما.
أما المسار البديل، والذي يضمن له تنامي القيمة والفاعلية، فيتمثل في مقارعة الاحتلال وأدواته الإقطاعية الداعشية الإخوانية، بوصفها المنتجة للمظلومية أو (القضية الجنوبية)، والعائق الأوحد أمام حلِّها، والمستثمر المباشر في حمامات الدم جنوباً وشمالاً، لجهة مشاريع تستهدف تقويض كل الوجود اليمني، وتعادي البلد برمته، ولا تكنُّ فيه لأيٍّ كان وداً.
إن الثورة التي أطاحت بالأدوات المحلية لهذه المنظومة في 21 أيلول 2014، تواجه اليوم عدوان تحالف الأرباب الإقليميين والدوليين للمنظومة ذاتها، ومن المؤكد أن وعي الشارع الجنوبي ينضج شطر اختمار اليقين باستحالة معاداة الأدوات وكسب صداقة أربابها معاً، أو الصدام مع (هادي ومحسن الأحمر والإخوان) دون الصدام مع المدير التنفيذي الأمريكي البريطاني ووكلائه في (الرياض وأبوظبي)، كما واستحالة الإمساك بعصا القضية من المنتصف تملقاً للإماراتي في مواجهة السعودي أو العكس؛ وسواءٌ كانت القضية موضوع النضال جنوبية أو شمالية، فإن نزوعها لرفض الأقلمة بمحدداتها الاستعمارية يجعلها مستهدفة بالعدوان وعاجزة عن مواجهته انفرادياً خارج الاصطفاف الوطني اليمني الواسع وأطره الثورية والسياسية والعسكرية المشتبكة مع ترسانة تحالفه العسكرية الكونية.
يمكن مقاربة الدعوة الحراكية إلى انسحاب الجنوبيين من قوام قوة تحالف العدوان العسكرية الناشطة في الساحل الغربي ونهم وصرواح والبقع شمالاً وشرقاً، بوصفها ـ أي الدعوة ـ مؤشراً إيجابياً على اختمار وعي نسبي حيال الدور الذي يتعين على الحراك النهوض به، على أن الانسحاب من اصطفاف العدوان لا قيمة له لجهة ما يصبو الحراك إلى تحقيقه من تلافي تمزيق الجنوب، إن لم يتطور هذا الانسحاب صوب التشبيك مع اصطفاف القوى المواجهة للعدوان في المستقبل القريب.
عدا ذلك، فإن الحراك يكون قد سلَّم رقاب جماهيره لسواطير (داعش) بأعنف مما كان عليه الحال قبل خميس استعراض العضلات الفائت، وبلا ثمن.
أنكى من ذلك، أن تحالف العدوان الأمريكي السعودي، يعكف قبل وبعد احتلال جنوب اليمن، على عسكرة حزازات حضرمية، وأبينية، وضالعية، ويافعية، لتتولى بالإنابة عنه، تقطيع أوصال النسيج الاجتماعي الجنوبي، وإجهاض إمكانات نشوء مكونات محلية سيسيوسياسية وازنة ذات طموح جنوبي شمولي يصعب عليه ترويضها لجهة مشروعه.
حتى اللحظة لا تزال (الشرعية) هي الذريعة الناظمة لقوى تحالف العدوان، وقد سدد إليها الحراك الجنوبي رصاصة الرحمة، ولا ريب، برفض الانصياع لها، ومن السذاجة أن تطمئن قياداته إلى دوام الود بينها وبين دولة ما ضمن التحالف، على حساب المشروع الناظم له، إلا على افتراض أن تكويم الجماهير لا يعدو كونه مقدمة لاستفراغ احتقاناتها المتنامية في هباء الأماني المحالة، نظير حصة أوسع للحراك في حظيرة جنوبية محتلة ومذعنة بلا حدود لمباضع التحالف.
علينا أن نحسن الظن، لكن دون أن ننسى أن سوء الظن يظل من أقوى الفطن.

أترك تعليقاً

التعليقات