رئيس التحرير - صلاح الدكاك

صليل السيوف ودحرجة العجلات وصهيل الجدائل
دمشـــق.. غيمة عطـر شقراء وموال نشيج أخضر

أجاهد للخروج من دوامات ضفائر الحرير المنقوعة بالسحر والجدائل اللاهثة كسنابل (تُركت بغير حصادِ)، والشموس المندلقة بغطرسة على الأرداف والمسترخية بفتور قاتل على وسائد وثيرة من الصدور الدمشقية المتوثبة كمقدمات الجيوش العربية الفاتحة في العصر الذهبي.
أجاهد للخلاص من دوامات (الجينز) وسراويل الـ(سبورت) الطويلة والقصيرة والأسود المكشوف من كتفيه وأقواس قزح المعقودة حول الخصور والصدور والأقدام الدافقة كجداول من الحنين في الأحذية المقصبة.. أركض بحثاً عن لحظة هدوء بعيداً عن صليل الأساور المتزلجة على معاصم أشبه بمقابض سيوف حمدانية.. وبعيداً عن هسهسات الحَلَق الطويل من الآذان المُقوَّسة كالأهلَّة .
كيف أستطيع أن أكتب عن قباب الجامع الأموي، وقباب الياسمين تعترض طريقي وترشقني بألف دعوة مُغرية للكتابة عنها، والنهود تتقاطع من حولي كما تتقاطع حبات الكرز والمشمش حول عود نحيل؟!
في دمشق يجب أن تكون عاشقاً لكي تكتب! وفي دمشق يصبح المرء عاشقاً بالضرورة، وتصبح الكتابة حالة عشق، وتجبرك المدينة على أن تنظر إليها بعيون تَعْمَى عن الشوك وتتسع لحقول الورد والدِّفلى ومزارع الدرَّاق والأجاص وغابات الصنوبر فيها..
ودمشق هي امرأة حسناء مستبدة تصفف شعرك الأشعث، وتغسلك من بداوتك، وتعلمك كيف تبدو أنيقاً، ثم تأمرك بأن تنحني لها لتُسمعها عبارات الإطراء وقصائد الغزل.. فتنحني طوعاً أو كرهاً، وتغدو شاعراً ومحباً رغماً عنك...
ودمشق هي (وَلَّادةُ بنت المستكفي) الأميرة المسكونة بالعشق والشعر والغرور، وسليلة المعالي التي تتيه في مشيتها غنجاً ودلالاً، ولا يمنعها ذلك من أن تمنح ورد خدها لأول دعوة قطاف يتقدم بها عابر طريق، ومن أن تُسَلِّم ثغرها لمن يشتهي التقبيل، لكنها تحتفظ دائماً بقلبها لها، وتضنُّ به على الجميع، ومن بينهم (ابن زيدون)!
ودمشق هي (الموناليزا) التي يُبرعم الحُزن على شفتيها ابتسامة آسرة، ولا تشفُّ ابتسامتها عن حُزنها، وهي الأنثى التي تَرَبَّى على ذراعيها أول وآخر الذكور، ولقنتهم أبجديات الكتابة والزراعة والفن والسياسة، وأعطتهم الدروس الأولى في الحب والحضارة، وذوى على جسدها لهب منجنيقاتهم، وأبقت على راية الأنوثة مرفرفة عبر العصور.

قبضات نتفت أهداب القمر
أصحو على إيقاع موال مترع بالشجن يمطر أثير الغرفة من مكان ما كنت عاجزاً عن فك حروف اللغة التي يصدح بها الصوت، وتبين أنه قادم من تلفزيون صالة الاستقبال في الفندق الذي أنزل فيه.. موال يشيع في نفسك الحزن.. حزن لذيذ وعميق عرفت في ما بعد أنه موالٌ كُرْدِيّ، وخلال الأيام التالية صار من المألوف أن أصحو على إيقاع موال مشابه تبثه القناة الكردية قبل الشروع في برامجها اليومية، ويواضب (محمد) العامل في الفندق، والذي ينتمي إلى منطقة القامشلي، حيث أغلبية الأكراد، على سماعها كوجبة صباحية يتناولها بإطراق وخشوع، مفتَتِحاً يومه بها. إنها نشيده الوطني غير الرسمي.
في الجزيرة العليا وإقليم دجلة ومدينة القامشلي من محافظة الحسكة لواء الخابور على حدود سوريا مع تركيا والعراق، تقطن غالبية أكراد سوريا، كما تعيش مجاميع منهم في جبال الأكراد محافظة حلب، وهم يدينون بالإسلام، وينتمون إلى المذهب السُّني، ويشكلون حوالي 8% في مقابل 65% من العرب السنة و12% من العلويين و8% من المسيحيين؛ بينما يشكلون حوالي 5.4% من مجمل تعداد الأكراد في سوريا والعراق وتركيا مجتمعين.
وعلى الرغم من النظر إلى المسألة الكردية على أنها قنبلة آيلة للانفجار في أية لحظة، مهددةً أمن 4 دول يعيش الشعب الكردي مبعثراً على أطرافها، إلا أن احتمالات انفجارها تبدو ضئيلة  جداً في سوريا، ليس فقط لأن الحكومات السورية المتعاقبة كانت أكثر مرونة في التعاطي مع المسألة الكردية، وأكثر قدرة على احتواء القومية الكردية في النسيج العربي السوري، مع عدم إلغاء خصوصياتها وثقافتها الأصلية، بل لأن الأكراد هناك كانوا ولايزالون يرون في سوريا الملجأ الذي هربوا إليه دوماً من اضطهاد الأتراك والفرس لهم؛ علاوةً على أن حلم قيام دولة كردية مُكَرَّسٌ في الأساس على كردستان في تركيا التي شهدت في مراحل متفاوتة حملاتِ إبادة للأكراد على أيدي التُّرك، في حين كان وقوعهم ضمن حدود سوريا حصيلة لاتفاق فرنسي - تركي، إبان انتداب الأولى لسوريا عقب الحرب العالمية الأولى عام 1921م، والمعروف باتفاق (أنقرة).
وتشير أدبيات (حزب البعث السوري) على حقِّ الأكراد في تَعَلُّم لغتِهم، وأكثر من ذلك حقهم في الحكم الذاتي إذا كان هناك ما يسنده، وحسب مقالة لخالد فياض في مجلة (السياسة الدولية) العدد 135 يناير 99م، فإن الممارسات السلبية التي مورست ضد الأكراد في سوريا (في بعض العصور) تعرضوا لها بوصفهم معارضين لا أكراداً... وعرف النضال ضد الاحتلال الفرنسي لسوريا أسماء كردية بارزة طالبت بالاستقلال ضمن الوحدة السورية، وفي الانقلابات العسكرية الأولى لمعت أسماء مثل (حسني الزعيم وفوزي سيلو وأديب الشيشكلي)، في خمسينيات القرن العشرين، وجميعهم من أصول كردية.
إن وضع أكراد سوريا قد يكون مطمئناً للأسباب السابقة، غير أن ضمانات أكبر تبدو مطلوبة، لاسيما عقب أعمال العنف التي شهدتها مدينة (القامشلي)، مطلع العام الحالي، بين مشجعين عرب وأكراد في (ستاد المدينة الرياضي)، والتي أثبتت أن من غير المستبعد استخدام ورقة الأكراد في الضغط على سوريا - على نحو ما- مباشر أو غير مباشر، مهما كان أكراد سوريا يتمتعون  بوضع أفضل بكثير منه في دول أخرى؛ كما ليس مستغرباً أن يتم ذلك بالتزامن مع فرض العقوبات الأمريكية رسمياً على دمشق.
أُمعن النظر في وجه (محمد الكردي).. بماذا تختلف هذه الملامح عن ملامح السوريين؟! لو لم يخبرني بأنه كردي لما اكتشفت ذلك.. إنه دمشقي الوجه واليد واللسان.. في إحدى المرات سألني إن كنت قد زرت ضريح (الناصر صلاح الدين)، فأجبته: نعم زرت ضريح هذا الكردي الذي وحَّدَ العرب واسترد (القدس)، كما تجولت في شارع الملك العادل الأيوبي الكردي أيضاً، وآخر ملوك دولة بني أيوب.
إنني أنتمي إلى ذلك العصر الذي يستيقظ الآن كالعنقاء في ذاكرتي، ويشتعل عنفواناً في دمي مع كل خطوة أخطوها في ثرى الشام، ذلك الزمان الذي كانت فيه القوة عربية والثقافة عربية والعدل عربياً والظلم عربياً والأرض عربية والسماء عربية، وكان الانتماء إلى العربية غايةً يَزِنُ العظماء بذؤابات سيوفهم لحظات الشرف في سبيل نيلها.
إنني أنتمي إلى ذلك العصر الذي يَكْبُرُني بمئات السنين.. أنتمي إليه بكل أمجاده وحماقاته، بكل نبله وانتهازيته، وبكل حضارته وبربريته.. أنتمي إلى تلك القبضات التي نتَّفت أهداب القمر، وزرعت سيوفها في عيون الشمس بدعوى الفتح أو بدعوى التوَسُّع، وبـ(قميص عثمان أو بدم الحسين).. إنني أُمَوِيٌّ كما أنا عباسيّ.. هكذا تَأكَّد لي في دمشق وأنا أطالع صفحات الماضي على ثرى حاضرٍ محاصرٍ باحتلالين: أمريكي في الشرق وصهيوني إسرائيلي في الجنوب، ومهددٍ باحتلال وشيك.

مثاوي الموتى تتنفس حياةً
دمشق المكان مدينة لا تزال تعيش في جلباب الأمس العتيق، على الرغم من حواجبها المُزَجَّحَة وأحمر الشفاه على شفتيها، وعلى الرغم من أطنان الجينز التي تمشط شوارعها وأزقتها على مدار الساعة، ووسائل وأدوات العصر التي تسرَّبت لتأخذ مكانها في كل ناحية من نواحي الحياة فيها.
وحين أتحدث عن دمشق الأمس، فإنني أعني تلك المساحة المدروزة بسور روماني تتخلله 7 أبواب: باب شرقي؛ باب الجباية؛ باب كيسان؛ الباب الصغير؛ باب توما؛ باب الجنيق؛ وباب الفراديس؛ ويمنح المدينة شكلاً مستطيلاً تبعاً لنمط الرومان في تصميم معسكراتهم وتسويرها. إن هذه المساحة تحديداً هي الماضي الذي تنتشر دمشق الجديدة خارجه في حلقات تتسع يوماً عن يوم؛ انتشار الحجيج حول الكعبة.
لقد اندثر سور المدينة تدريجياً بمرور العقود، وتحت ضراوة الضربات التي تعرض لها، ولعل أشهرها تلك التي صاحبت اجتياح العباسيين للمدينة سنه 750م؛ كما أُدخلت عليه بعض التعديلات، فأخذ شكلاً بيضاوياً إبان الحُكم العُثماني، وكل ما تبقى منه اليوم هو واجهةٌ بطول 500 متر، في حين لا تزال مُعظم بواباته باقية حتى اللحظة، علاوة على بابين اسْتُحْدِثا في عهد الدولة الإسلامية، هما باب السلام وباب الفَرَج.
إن اندثار القلاع والحصون والأسوار قد يعني اندثار التاريخ بِرُمَّته بالنسبة لمدينة ما.. لكن ذلك لا يسري على دمشق، هذه المدينة التي لا يقتصر تاريخها على تلك التركة الرسمية التي يخلفها الحُكام والقادة وراءهم في العادة... فعلاوة على هذه التركة، هناك تركة شعبية خلقها إنسان دمشق البسيط، ونفخ فيها من جمال روحه، فَضَمِن لها ديمومتها وتَجَدُّدَها في الزمان والمكان، لذا فإن الحديث عن تاريخ دمشق هو حديث عن بائع العرقسوس ذي البنطال الأسود الفضفاض والقميص المُذهَّب والطربوش والشوارب المفتولة، بإبريقه الضخم الذي يتمنطقه على ظهره وينحني معه ليصب لك كأساً..
وكما هو حديث عن الوليد بن عبدالملك، هو حديث عن البيوت الدمشقية بِفُسْقِيَّاتِها ونوافيرها وأشجار الليلك المُعرِّشة في بهوها، وبزجاج سقوفها الملوَّن، كما هو حديث عن قصور بني أمية. إنه حديث عن تاريخ يتجوَّل حافي القدمين في أزقة حي مئذنة الشحم والشاغور وسوق الحميدية ومدحت باشا، وفي الخانات والحمامات العتيقة، ويجلس ليلعب (النرد) ويدخن (الأركيلة) في مقهى ينزوي بتصوُّف تحت قوس حجريٍّ معقود عند مدخل حارة دمشقية معمورة بحميمية الوقت وبالألفة والدفء.
من هنا مر الأمويون والعباسيون والفاطميون والسلاجقة والأتابكة والأيوبيون والعثمانيون والمماليك والفرنسيون.
لا يزال الوقت مُترعاً بصليل السيوف ودحرجة عجلات المنجنيق وعرق الخيل المنهكة، وبتهامس المتآمرين ولهاث الهاربين وغطرسة الغالب وبؤس المغلوب. من هنا مَرَّ جميعُهم، وانقشع غبار فلولهم المنسحبة عن دمشق قديمةً وصَبِيَّةً، وظلت الجدران المشغولة بالمنمنمات والتكايا والقباب وشرفات القصور ملف ذكريات وماركة مسجلة باسم المدينة. تآكلت قبضات المحاربين، وظلت قبضةُ هذا العجوز الذي ينقش بالمطرقة والإزميل تفاصيل روحه على جسد آنية نحاسية مُوَقِّعَاً لحنَ حياةٍ لا تشيخ.
أتسكع بالساعات في شوارع وأزقة وأسواق دمشق القديمة، بقدمين تتهجَّيان أبجدية المكان؛ تلثغان وتتعثران وتخبطان بلا غاية سوى التسكع ذاته.. يحدث أن يفضي بي تسكُّعي إلى مقبرة.. حتى مثاوي الموتى هنا تتنفس حياةً، وتمتزج فيها الرهبة بالجمال.. جمال يطالعك من الأضرحة المسقوفة بعناية، ومن الشواهد الرخامية المحمَّلة بِسِيَر موجزة عن حياة الراحل وبقصائد رثاء وكلمات نعي حُفِرَتْ عليها بخط جميل ومنسق، وتحثك على زيارة سكان هذا العالم. إنها مقابر تُغِيِّر فكرتك عن الموت، وتجعله يبدو بمثابة استجمام قصير في مصيف مؤثث بالهدوء تتشوق لقضاء إجازتك المقبلة فيه.. من السهل أن تلاحظ أثر الثقافة المسيحية على تصميم المسلمين لمقابرهم واضحاً في هذه العناية التي يرجع إليها السبب - ولا ريب - في أن أولى الصور التي التقطُتها في دمشق كانت لمقبرة تقع عند الباب الجنوبي للمدينة، وعنه أخذت التسمية مقبرة (باب الصغير)، وفيها ترقد جثامين الأمويين، في تجاورٍ وادعٍ مع جثامين آل البيت.. ففيها - كما يذكر ابن بطوطة - دُفِنَ معاوية بن أبي سفيان وعبد الملك بن مروان وبلال الحبشي وأبو الدرداء والسيدة سُكينة بنت الحسين صاحبة أقدم وأشهر صوالين الأدب النسوي العربية، وفي المقبرة يرقد أيضاً علي بن عبد الله العباس وجعفر بن الحسن وخديجة بنت زين العابدين.. أسماءٌ ملأت الدنيا ضجيجاً وترقد الآن بسكون. أنسحبُ أنا حتى لا أفسد عليها سكونها...
 عند مدخل البوابة يجلس قَيِّمُ المقبرة العجوز على مقعد حديدي نخره الصدأ.. أدُسُّ في راحة يده المعروقة قطعةً نقدية فئة 10 ليرات.. تُرى كم دينارٍ ذهبيٍّ كان سيطلبه الحاجب مقابل تسهيل دخولي إلى بلاط أمير المؤمنين معاوية.
في الخارج ينتظرني نهارٌ صيفيٌّ طويل وسؤالٌ حائر: ما هي المحطة القادمة؟ ولكن هل كانت هناك محطة سابقة لتكون هناك لاحقة؟ لقد كنت أتسكع فحسب، ولا خيار إلا أن أواصل التسكع! فمنذ البدء تركت لهذه المدينة حرية اختيار الأسماء والأمكنة التي ترغبُ هي في أن أزورها! والمشاريب التي تُفضل أن أشربها! تركتها تتعرى في حدود ما ترغب هي في أن تُريني منها، لا في ما أتوق أنا لرؤيته وبلا حدود! لم أخطط لاقتحام المدينة كما فعل (خالد بن الوليد والجَرَّاح)، ولم أحاصرها بالخيارات العربية الثلاثة الشهيرة: الإسلام أو الجزية أو الحرب. كنت ديمقراطياً للغاية معها، وكانت دكتاتورية للغاية معي.. كنت مكاشفاً وكانت باطنية تماماً كبيوتها. يقول الروائي السوري (خيري الذهبي) إن توالي النكبات والصراعات التي شهدتها دمشق، جعلت من إنسانها باطنياً، وقد عكست باطنيتُه تلك نفسها على معمار البيت الدمشقي؛ هذا البيت الذي يطالعك من الخارج بجدران قاتمة عبوس لا تُفصح عما يَدَّخِرُه خلفها من جمال باذخ وإشراق وثير، و.. هذا تماماً ما لمسته في منزل (نزار قباني)؛.. تعرفون هذا الرجل، أليس كذلك؟

كُتبت هذه المادة عام 2004

أترك تعليقاً

التعليقات