رئيس التحرير - صلاح الدكاك

صلاح الدكاك / لا ميديا -

ما المبلغ الذي يمكن لوسائل الإعلام العالمية أن تشرطه على المملكة مقابل أيام صمت معدودة عن الخسائر المترتبة على الزلزال اليمني في "ينبع"؟!
ثمة خسائر مباشرة منظورة للعملية، وأخرى غير مباشرة ولا منظورة، وهذه الأخيرة هي الأعظم لأنها مفتوحة على حاجة المملكة الملحة والعاجلة والمتجددة لإجراء سلسلة من عمليات التجميل السياسي والاقتصادي والإعلامي والأمني والعسكري، وهكذا فإن كل مليون تخسره الرياض في الميدان تقابله خسارة مليار في الكواليس بالنسبة لنظام استعماري وظيفي يفتقر بالقصور الذاتي لجذور وجودية ضاربة في تربة المنطقة تكفل له الديمومة.
منذ الأول من كانون الأول ديسمبر الفائت تترأس المملكة مجموعة العشرين الصناعية الكبرى، وبمنأى عن "كم دفعت مقابل هذا المنصب الفخري؟!" فإن استمرارها فيه حتى تشرين الثاني نوفمبر من العام الجاري، مرهون بدفع المزيد والمزيد مما تملكه، وهي لا تملك شيئاً، طبقاً لترامب، سوى المال والمال فقط!
على أنها لن تكون قادرة على شراء بقائها في الواجهة الفخرية لـ"العشرين" بالمال لأسابيع وأشهر قادمة إذا ما قررت صنعاء نقل عملية الردع إلى طور الوجع الكبير، فالعالم المفتون بالسيولة المالية لها لن يجد ما يغريه فيها إذا ما وقعت تحت طائلة الجفاف، وبات حتماً عليه أن يشاطرها الخسارة على مستوى اقتصاداته المرهونة بسلامة بحيرات النفط واستمرار دفقها السلس في مكائن السوق المعولمة... ثمة ثمن واحد ووحيد - فقط - كفيل بوقف متوالية السقوط السعودي المضطردة: أن تتوقف المملكة كلياً عن ضخ البنكنوت في تنور العدوان على اليمن وحصار وتجويع شعبه وتدمير مقتدراته، وهو ثمن لا تملكه الرياض بمنأى عن "واشنطن، لندن، تل أبيب" الثالوث الذي تخوض المملكة حربها العدوانية بالإنابة عن مصالحه ومخاوفه وأطماعه ومحاذيره بصورة باتت جلية لعيان السذج قبل العارفين.
لو كان للمملكة قرارها العصامي، يجزم أنصاف العارفين؛ لما خاضت منذ البدء حرباً لا مسوغات لها ولا مصلحة واضحة من ورائها على شعب نجد والحجاز المغتصب، وأما العارفون كاملو المعرفة بأطوار المخاض الاستعماري الغربي الصهيوني في المنطقة العربية والإسلامية، فيدركون جيداً أن المملكة لم تكن في كل مراحل نشأتها ووجودها هبة سيف ابن سعود وقواعد ابن عبدالوهاب، وإنما كان كلاهما بُضعة غير طاهرة للإمبريالية، وانعكاساً مطلقاً لإرادتها ومشيئتها الفاجرة والرامية لتخليق تربة متماسكة لها في الفضاء المادي والروحي للشرق العربي والإسلامي، تجرف من خلالها تربة الوجود الأصيل لشعوب المنطقة بطشاً وتغييباً وتذويباً في أتون إسلام وعروبة إمبرياليين مقطوعي الصلة بسياق الحقائق الموضوعية للتاريخ وجدلية الصراع والنشأة في المكان والزمان ومآلاته.
هذا يجعل من فض الاشتباك بين وكلاء الإمبريالية الصهيونية، وعلى رأسهم بنو سعود من جهة، ولحم الخارطة اليمنية من جهة مقابلة، معضلة وجودية مرهونة بفض اشتباك الإمبريالية ذاتها مع لحم المنطقة بأسرها، وهكذا فإن خيار المنطقة هو: إما وجود كامل بالأصالة عن مصالح شعوبها المتمثلة في الخلاص من الهيمنة والاستكبار والاستلاب، أو وجود كامل بالإنابة عن قوى الهيمنة والاستكبار والمكوث في حظيرة الاستلاب لعقود وقرون أخرى حتى إشعال آخر.
في هذا السياق، فإن تنامي قوة الردع اليمنية لا تعود مخيفة للسعودية فحسب بحيث يجري إنهاء مخاوفها من خلال تفاوض ثنائي يضمن طرفاه (صنعاء والرياض) فض اشتباك سلساً مع عدم الاعتداء مستقبلاً... بالنسبة لصنعاء فإن الأهلية متوافرة لتفاوض كهذا، غير أن الأمر مختلف كلياً بالنسبة للرياض التي يرى مديرها التنفيذي الثالوث الغربي الصهيوني أن مجرد التسليم سياسياً بقوة صنعاء العسكرية العابرة للحدود يعني توقيع شهادة وفاة وجودية له وانفراط  لموازين الهيمنة التي ضفرت الإمبريالية فتائلها طيلة أكثر من قرن، وكبلت بها المنطقة وشعوبها، ولا تحتمل نكث غزلها ولو جزئياً عبر الإقرار بحق اليمن في حرية واستقلال مشفوعين بامتلاك قوة عسكرية وطنية نوعية لا سلطة عليها لغير صنعاء الثورة، ولا فضل فيها لسوق السلاح والنظريات والعلوم الأمنية والعسكرية المعولمة.
إن المخاوف الاستراتيجية لثالوث الهيمنة الإمبريالية ليست لجهة التهديد الجوصاروخي اليمني المتنامي للمملكة والإمارات ككيانين وظيفيين له، وإنما هي أكثر لجهة انفراط عقد المعادلة العسكرية في الشرق الأوسط وهزيمة منظومة السلاح الغربي، ومن ثم انكشاف الكيان الصهيوني لذات الخطر الوجودي الوشيك إذا ما خرجت اليمن بكامل حقوقها من أية عملية تفاوضية قادمة، وهذا يطيل من أمد الاشتباك كعامل جوهري بمنأى عن أكاذيب المبعوث الأممي حول السلام ورؤيته المخاتلة لسبل تحقيقه والمنصبة على تجريم الضحية وتوصيف مقاومتها ودفاعها عن نفسها باعتباره "تصعيداً خطيراً يعوق الحل السياسي ويفاقم المعاناة الإنسانية ويطيل أمد الحرب" بحسب توصيف غريفيتث.
إن الضربة الجوصاروخية اليمنية المشروعة على "ينبع"، والتي زامنت زيارة وزير خارجية واشنطن مايك بومبيو للرياض، هي ضربة تتوخى قسر الأصيل الأمريكي المحرك لتحالف العدوان، على البروز إلى واجهة المسؤولية والتفاوض المباشر بمنأى عن لعبة الأقنعة والقفازات، لاسيما وأن إصرار واشنطن على المضي في لعبة إدارة خيوط الدمى من الكواليس تغدو يوماً فيوماً وبالشواهد المنظورة كارثية عليها ولم يعد بوسعها الاستمرار فيها لأمد أبعد من ضربة "ينبع" دون أن تتلقى ضربات وجودية مميتة تمسد أصابع صنعاء مكابس صواريخها ومسيراتها قيد إشارة من سبابة سيد الثورة.

أترك تعليقاً

التعليقات