تلاوة من سورة (الكهف)
 

رئيس التحرير - صلاح الدكاك

أكثر من ذي قبل، بات صوت (الكهف) مسموعاً وأبعد مدى وأمضى حداً وأنفذ سناناً وأقدر على قسر العالم الأصم الأخرس المنافق على الإصغاء، تحت وطأة المتغيرات الموضوعية، لا تحت وطأة تأنيب الضمير.
بات صوت (الكهف) مسموعاً، لأنه كان ولا يزال صوت الشعب، صوت الحرية، وصوت الفطرة الإنسانية في مقارعة الجلادين وقوى الهيمنة والاستكبار، ليس بدءاً بالحرب الأولى على صعدة، ولا انتهاءً بالعدوان السعودي الأمريكي على اليمن.
تكسرت في مهب (العاصفة) بيارق اليسار التي وقفنا لها ذات يوم بخشوع ورهبة، وتحوَّل قماش اليافطات القومية الممهور بشعارات (الحرية، والاشتراكية، والوحدة)، إلى خرقة رخيصة منقوعة بملح الابتذال، يدعك بها أمناء السر جلد طويل العمر وقدميه في حمامات البترودولار، وخرَّ كرادلة التوحيد والتنزيه والنهي عن البدع، سجَّداً تحت أقدام قرن الشيطان، بعد أن حرَّموا علينا قراءة الفاتحة على أضرحة أحبائنا الراحلين، وأضرموا حطب المواعظ لكل من يتبول واقفاً.
لاذ أجنة معامل التخصيب الدولية بأرحامهم الأصلية، وانفضت جوقات المضاربين في بورصة حقوق الإنسان، وبهلوانات ما بعد الحداثة، وندابات الحريات الصحفية...
ذوت كل الأصوات في ذروة مآتم الشعب، وبقي صوت (الكهف) مزمور مزامير المقهورين والمستضعفين، وانضوت كل الرايات واليافطات تحت لواء قراصنة العدوان وعلوج الاحتلال وتجار اللحم الأبيض والبغاء السياحي، وبقي بيرق الصرخة راسخاً شامخاً رافضاً مديد السارية ضارب الجذور مرهف النسغ جبار الأحرف والنبرات في طليعة ملحمة ملاحم الأرض والعرض والشرف والكرامة، مع الشعب وللشعب وبالشعب.
منذ عقدين ونحن نذود ذباب عوامل التعرية عن جثمان (الحزب) هرباً من مرارة الإقرار بوفاته.. حنَّطناه بأصناف الذرائع والحجج، ومكثنا في عذاب الانتظار المهين، آملين أن تعود إليه الروح، وتتقد نجمته فتقود البحر، لكنه ظل يتفسَّخُ أكثر فأكثر، وتكشفت نجمته بمرور الوقت عن دينارٍ زائف، يغازل به الصيارفة والمرابون عرق الكادحين ليسفحوه بثمن بخسٍ نبيذاً في دوارق شيوخ الإقطاع، ومرهماً لمفاصل ملوك النقرس..
ومثلما يفعل مهرب آثار وغد ولئيم، حمل (ياسين سعيد نعمان) ما تبقى من جثمان الحزب المومياء في حقيبة (سمسونايت)، وطار به مرتحلاً بين مزادات السوق الحرة من دبي إلى الرياض إلى لندن، يؤجره في حفلات البورنو والتعرِّي السياسي ونكاح الموتى و(جاليري) الدعاية الدولية للعدوان على ما كان يسمى بلده وشعبه وجماهير حزبه العريضة.
هل هناك من لا يزال بإمكانه ـ اليوم ـ أن يقسم بشرف حزب فشخَ سيقان الخارطة شمالاً وجنوباً للجنجويد و(الكوكلاكس كلان) وخليط الشواذ والأوغاد والقتلة المأجورين القادمين من شمال الأطلسي؟!.. أحرى بالمرء ـ إذن ـ أن يقسم بالعهر، إن كان هذا هو الشرف.
إن شرفاء وأحرار (كاراكاس وهافانا ولاباز)، وكل شرفاء وأحرار العالم، حين يسرِّحون أبصارهم اليوم في فضاء العالم الشاسع بحثاً عن نظرائهم شرفاً وحرية، فإن أبصارهم لا تحط على غير عمامة سيد المقاومة في لبنان، و(شال سيد الثورة) في اليمن، وجبين الرئيس بشار الأسد السامق، في سوريا، لا على يافطات الأحزاب اليسارية والقومية، ولا على مقراتها التي بات معظمها عُلَبَاً ليلية لـ(سي آي إيه)، و(بورديلات) تستفرغ الرجعية العربية احتقاناتها وفائض حيوانيتها في كواليسها.
إن قوى الهيمنة الامبريالية والاستكبار العالمي تجد نفسها اليوم إزاء إخفاقاتها مرغمة لأن تصغي إلى (صوت الكهف) بقدر ما رغبت وحاولت ـ ولا تزال ترغب وتحاول ـ إخراسه عبر تحالف العدوان السعودي الأمريكي.
وبعد مرور عام من حصاد الخيبة لجهة أهداف ومشاريع العدو في اليمن، فقد بات مؤكداً أننا على عتبة زمن وطني جديد حر وكريم يشرق من تلقاء (الكهف)، بوصفه اختزالاً أميناً لأزهى وأبهى محطات كفاحنا الوطني تاريخياً، يقابله أفول زمن الهيمنة الأمريكية، وأفول لفيف أدواته المحلية والأحزاب التي أجرت حناجرها وجيَّرت تاريخها النضالي لأمراء الروث والقار، وأناخت في الضفة المعادية لشعبها.
انتهت الجولة الأولى من الصراع في طوره المحلي عقب 21 أيلول 2014م، ورشحت عن خارطة وطنية جديدة للقوى الجديرة بالارتقاء إلى سدة تجسيد الآمال والآلام الشعبية فكراً وممارسة، وتوشك أن تنتهي الجولة الثانية من الصراع في طوره الإقليمي والدولي، والتي دشنتها قوى الهيمنة الامبريالية في 26 مارس 2015، عبر عدوان كوني مباشر على اليمن، وعن هذه الجولة سترشح خارطة توازنات إقليمية ودولية جديدة لجهة حضور وازن ليمن ما بعد انتصار الثورة وانكسار العدوان.
إن مفاوضات الكويت القادمة لن ينجم عنها ـ في حال عُقدت ـ تحوير نوعي في المشهد السياسي اليمني، يفسح مساحة مريحة لعودة الخونة والعملاء إلى سدة الفعل، بقدر ما ستفضي ـ هذه المفاوضات ـ إلى شقلبة تراتبية الهيمنة داخل مجلس التعاون الخليجي لصالح سقوط صولجان البلطجة من قبضة (الشقيق الأكبر السعودي)، وانفساح أفق موضوعي لعودة الكويت إلى واجهة المشهد الخليجي الإقليمي كصوت عربي معتدل.
لا مناص من الإقرار بأن رياح التحولات الموضوعية في اليمن والمنطقة لم تعد أمريكية الهبوب كما هو تعويل المؤلهين لأمريكا، وأن إدارة (الكهف) لدفة اللحظة التاريخية الوطنية أسهمت بصورة مباشرة وغير مباشرة، في إنضاج هذه التحولات المواتية لإبحار المستضعفين والمقهورين شعوباً ودولاً، صوب مستقبل آدمي لائق.
لا مناص من الإقرار بأن (كهف السيد) ينتصر، لأنه اتسع لكل الشعب، وضاق على جلاديه، فيما ضاقت أحزاب العبيد بالشعب، واتسعت لجلاديه..
لكل هذه الأسباب بات (الكهف) فضاءً وطنياً قومياً أممياً أكثر من ذي قبل، وتفسخت جثامين الأمميين والوحدويين في الأزقة وأقبية الحزازات القروية والمناطقية..
بلا عزاء...

أترك تعليقاً

التعليقات