رئيس التحرير - صلاح الدكاك

صلاح الدكاك / لا ميديا -

هذه المادة نشرت سابقا في «لا» ونعيد نشرها للمناسبة
لا يمن دون تعز ولا تعز دون «الجحملية».. أكثر من ذلك فإنه يمكن القول «إن لليمني مدينتين وحارتين، المدينة التي وُلد فيها وتعز، والحارة التي ترعرع فيها والجحملية».
تمثل الفترة الزمنية الممتدة بين منتصف القرن الثاني عشر الميلادي ومطلع القرن العشرين، المخاض المديد ومتعدد الأطوار لولادة الحي الأكثر شهرة ـ بالإطلاق ـ على نطاق اليمن.
تناوبت أزاميل طموحات وأطماع الرسوليين والعثمانيين القادمين من وراء حدود اليمن الطبيعي، وأزاميل الدويلات اليمنية المحلية التي كانت «الإمامة» أبرزها، على رسم ملامح المكان إضافةً وحذفاً وتعديلاً، فتمظهر هذا التناوب المحترب في فسحة المساحة المنحدرة من سفح «جبل صبر» جنوب شرق «تعز» انتهاءً بوسط المدينة، على هيئة جدل عمرانيٍّ حي من حيث تباين أنماطه الهندسية.
فُقدت حلقات وانمحت أخرى، إلا أن ما تبقى منها في أنساق المكان المشتبكة والمتماهية في بعضها البعض، يبدو أشبه بمرويَّات تاريخية تلهج بها طوب الأبنية العامة والخاصة وملامح وجوه قاطني الحي ولكناتهم التي أخذت من كل لكنات اليمن ولهجاته نصيباً، فحصدت من تنوعها فرادتها واستقلالها دون قطيعة مع روافدها.
يتألف مجتمع الحي طبقياً وبدرجة رئيسة من وجاهات أسرية تضم هاشميين وقُضاة وكبار مُلاَّك أبرزها على الأرجح أسرة «الوجيه الجنيد» الذي تقول إحدى الروايات إنه أول من قطن «الجحملية» وتحديداً أطرافها العليا من جهة الجبل والمسماة «ثعبات» وهي عبارة عن منحنى خصيب كثيف الأشجار ومتعدد الينابيع يمتاز بعذوبة مائه، ويرد ذكرها كثيراً في نصوص العصر الوسيط نثراً وشعراً يتغزل بنوافير وبرك وقصور باتت اليوم أطلالاً مطمورة عُمراناً ورسوماً.
وتنتظم طبقة العلية الاجتماعية بالإضافة إلى الوجاهات الأسرية شريحة البيروقراطية الحكومية من كبار موظفي الدولة الذين ألَّفوا الأبنية الفوقية للدول المتناوبة على الحكم في اليمن، وينتهي نسب بعضهم إلى العراق والشام وعرقيات أخرى كالترك أو الشركس، فيما ينتظم ذيل سلم التراتبية الطبقية تلك شريحة صغار الموظفين والحشم وسائسي الخيول الحكومية ومستخدمي المقاصير المعروفين بـ»الدويدارات».
في المحصلة فإن عوامل التعرية التي رافقت تناوب الأنظمة والدول على المكان، قد نالت من هذه التراتبية بفعل تبدّل موازين القوى المستمر في البنية الاجتماعية للحي، ما أسفر عن نشوء إنتاج علاقات ارتفع فيها نصيب الفرد من القيمة الاجتماعية وانهارت إلى حد بعيد الأسيجة الطبقية العازلة بين الشرائح إثر نوبات فقدان السلطة كرابطة تمثل معادلاً موضوعياً للروابط والعصبيات القرابية والقبلية التي اندثرت بمغادرتها بيئتها الحاضنة وانخراطها في علاقات مدينية محورها الفرد.
كانت لحظة بزوغ الجمهورية في 1962م لحظة مشجعة وحافزة لكثير من الشرائح الدنيا في مجتمع «الجحملية» على السعي لاكتساب مكانة جديدة بمنأى عن الرصيد الجهوي.
التحق أبناء هذه الشرائح بأعداد غفيرة بالكليات والمعاهد العسكرية ومختلف التخصصات الأخرى عبر الابتعاث، وشغلوا لاحقاً مواقع فاعلة في أجهزة الدولة.
بات الطبيب والمهندس والمعلم والرياضي شخصية وازنة اجتماعياً، إلا أن تعثُّر بناء الدولة الوطنية وسيطرة «الإخوان وقوى الرجعية والإقطاع» على مقاليد الجمهورية أعاق كثيراً هذا التحول على مصاف تشارك الأدوار والفاعلية في دولة الجمهورية التي أفرغت روحها الثورية التقدمية بخطاب سلفي وهابي ثأري انتقص من قيمة النخبة التقليدية السابقة للجمهورية (السادة مثالاً) ولم يضف قيمة للأفراد من الطبقات الدنيا.
يؤرخ هذا المنعطف تحديداً لاتجاه طاقة الشبيبة فــي «الجحملية» صوب حركات العمل السياسي المعارض كـــــرد فعـــــــل لانحراف مسار الجمهورية واستفراغ روحها.
بالنسبة لمجتمع يتماهى فيه «الهمداني مع الصبري مع التركي مع الشرعبي مع الشركسي مع المحويتي مع السنحاني مع البكيلي مع الحاشدي، والشافعي مع الزيدي مع الصوفي»، على مصاف النسب والمصاهرة، في أتون علاقات غير قابلة للفرز طائفياً، فإن الهروب إلى فضاء مستقبلي لا تشجع عليه الجمهورية المغدورة، كان هو الحل في نظر كثيرين من شباب «الجحملية» إزاء استشعار خطر «السيطرة الوهابية وقوى الرجعية» على مقاليد «الجمهورية الحلم».. هكذا فإن الأحزاب والتيارات التقدمية اليسارية والقومية بدت الخيار الأمثل، فيما كانت الرياضة بمثابة مضمار أبيض لرفض الواقع اتجهت إليه مجاميع كبيرة من الشباب بحماسة احتلت معها «الجحملية» موقع الصدارة على قائمة ولادات النجوم ورفد الأندية والمنتخبات الوطنية بدماء جديدة دافئة وغزيرة.
إن الصورة السلبية التي راجت عن «الجحملية» كحي غير منضبط ويثير الشغب، هي على الأرجح نتاج محاولات سلطة الانحراف في المسار الجمهوري لاستعداء المكونات الاجتماعية الأخرى في تعز وغيرها على الحي الأكثر نضوجاً وأهلية في بنية المجتمع التعزي لفضح ومجابهة أكذوبة «انهيار الفوارق بين الطبقات» وجدية «السلطات في تذويب العصبيات لصالح علاقات فردانية مدينية».
خلافاً «للجحملية» التي نشأت كحصيلة لجدل التنوع الاجتماعي الفكري والمذهبي والقبلي والعرقي المحلي والوافد، فإن ضواحي المدينة التي شهدت طفرة عمرانية عقب ثورة سبتمبر 1962م، قد نشأت على هيئة تجمعات قروية عشوائية في الغالب قوامها الخبرات البسيطة والمحدودة لهجرات داخلية ريفية تشاطرت استثمار المساحات البيضاء والواعدة من حيث أثمانها بالتواسي في إطار تبادل الدعم والمساندة داخل روابط قرابية متوجسة من الآخر، وفي الشق الأعتق من عُمران «تعز» المتمثل في «المدينة القديمة» سادت علاقات اجتماعية جهوية ساكنة بين بضع أسر تقليدية تعود إليها حيازة معظم الأرض داخل وخارج أسوار المدينة العتيقة، وكل الأبنية في نطاق تلك الأسوار، فأسهم ذلك في نشوء علاقة مستتبة نسبياً بين بنية مجتمع المدينة القديمة من جهة وسلطة «انحراف المسار الجمهوري» من جهة مقابلة، كانت حصيلتها رواج صورة عن أهالي أحياء المدينة القديمة بوصفهم «عيال ناس» وصورة مماثلة عن أهالي الضواحي الحديثة عمرانياً بوصفهم «قرويين أصول».
تكمن المفارقة، التي لا تعود مستغربة وفقاً لمقاربة النشأة الآنفة، في أن معظم المتسربلين لبوس الحداثة والداعين لبناء «الدولة المدنية الحديثة» هم من أولئك الذين يفرزون البنية الاجتماعية لتعز إلى «أصول» و«وافدين» ويناصبون «الجحملية» الحي الأكثر فردانية وتمظهراً للسمات المدينية العداء باعتباره «خروجاً على التجانس المذهبي والاجتماعي التعزي المتوهَّم».
لم يكن بمقدور مشروع «الأقلمة بمعيار الفرز الانعزالي» المرور إلى واقع التطبيق في اليمن بطبيعة الحال دون تقويض السلم الاجتماعي في «تعز»، ولم يكن ليتحقق ذلك دون «تقويض بنية الجحملية» القائمة على التعدد المتعايش.
الحقيقة أن «الخطاب المناطقي الطائفي» الذي تسوقه في تعز وباسمها «نخبة العمالة للرياض من الإخوان وأدعياء اليسار والناصرية» هو خطاب يتأسس على افتراس «تعز» في المقام الأول.
فحين نبدأ بطرح السؤال «من هو التعزي؟!» برسم الفرز المناطقي والطائفي، فإننا لن نعثر على «تعز» تحت أي من مفارز الهويات الانعزالية، والنتيجة في المحصلة تكون تهجير بنية المدينة برمتها وتلاشي وجودها لصالح «عصابات القاعدة الإخوانية والوهابية» و«طيور الظلام» التي تنوب اليوم عن «مدينة مفقودة» اسمها تعز، وتنصب المقاصل والأعلام المقيتة على أنقاضها.
إن «النادي الأهلي» الذي جسد بدرجة رئيسة الطاقة الخلاقة للفرد في تعز، يُصلب اليوم على سارية الانتصار لمدينة لم تكن مدينة إلا به وبدورته الدموية التي بثت في شرايينها حياةً عصرية منذ وقت مبكر منتصف خمسينيات القرن الفائت.
وإذا كانت «تعز» مدينة فـ«الجحملية» هي التمدُّن في منسوبه الأعلى قياساً بغيرها من بنى قروية انعزالية أجهضت سلطة «انحراف المسار الجمهوري» فضاء تحوُّلها الرحب إلى بنى فاعلة في إطار الوطن عموماً، وأعدَّتها كعبوات ناسفة فخخت بها طريق النهوض ومشروع الدولة الوطنية.

أترك تعليقاً

التعليقات