الأفق الرحب لانتصار مديد
 

رئيس التحرير - صلاح الدكاك

عَجْزُ تحالف قوى العدوان الأمريكي في احتلال الحديدة وتطويع كامل الساحل الغربي لسيطرته، أفقد ما تحت يده من جغرافيا تطل على البحر العربي، كلَّ قيمة استراتيجية لجهة ما يصبو إليه من فرض هيمنة حاكمة على همزة الوصل المائية الأهم بين الشرق والغرب؛ هذا على المستوى الإقليمي والدولي، أما محلياً فزنزنة جغرافيا المرتفعات التي تمثل المجال الأكثر حيوية لحركة (أنصار الله)، ومن ثم إماتة الحركة عن بعد بإغراقها في دوامة نزاعات مناطقية ومذهبية، ستكون مواتية في مناخ من العزلة شديد الخناق!
كيلُ أحابيل أمريكا في هذا الخصوص يبدو أنه ينقلب عليها اليوم بالضد لغاياتها، فعوضاً عن أن تحتل الحديدة بات خسرانها للجغرافيا المحتلة سلفاً هو الأرحج، مع بلوغ جنازير تحالفها مرحلة الدوران الارتدادي عسكرياً وسياسياً، وسقوط كياناتها الوظيفية في الخليج فريسة للصراعات البينية بصورة حادة وغير مسبوقة كما وغير قابلة للاحتواء في الظل على غرار ما كان يجري زمن ربيع الهيمنة الأمريكية الغابر..
في حين أن مجد نفوذها الامبراطوري المائي الذي تلقى ضربات موجعة في (قزوين) والقرم ومعظم السواحل الأفريقية والآسيوية المشاطئة للمحيط الهندي والبحر الأحمر، علاوة على مضيق (هرمز في الخليج)، يوشك أن يتلقى ضربة مميتة اليوم على الضفة المائية اليمنية وتحديداً في منعرج العناق بين البحر العربي والبحر الأحمر، من خلال اتفاقية سياسية أعدمت أفق اندفاع التحالف الأمريكي العسكري صوب الحديدة، وأتاحت للصين وروسيا ومحور المقاومة، عبر مناولة ديبلوماسية يمنية من قيادة صنعاء، تقليصَ مسرح الأطماع الأمريكية المائية إلى الحد الأدنى الذي باتت معه أمريكا عقب اتفاقية (ستوكهولم) في موقع شريك يفتقر لأسهم الإدارة، لجهة احتكار مفهوم الأمن المائي العالمي ومقتضيات ضمانِه والآليات التنفيذية للنهوض بتلك المقتضيات..!
لا ريب أن الصراع الإقليمي والدولي ـ بفعل معطيات الصمود اليمني ـ قد دخل منعطفاً بارداً أو لنقل أقل سخونة من ذي قبل، عنوانه (اتفاقية ستوكهولم) التي أخفقت أمريكا وبريطانيا في وضعها تحت كنف قرار أممي كيدي الصياغة، جرى تعديله وتخليصه ـ لاحقاً ـ من الكيدية الأمريكية البريطانية، وحصل على تصويت بالإجماع في مجلس الأمن، أمس الأول، لتدخل الاتفاقية رسمياً حيز التنفيذ على الأرض.
قبل ذلك اتخذت أمريكا قرار الانسحاب العسكري من شمال شرق سوريا، وهي على وشك اتخاذ قرار مماثل ينهي وجودها العسكري في أفغانستان، استقال ماتيس من منصبه كثاني وزير دفاع منذ تولي ترامب الرئاسة؛ زار الرئيس البشير دمشق، اندلعت احتجاجات مطالبة بإسقاط النظام في السودان، أنهى الرئيس الإيراني زيارة ناجحة إلى تركيا، و.. تضاءل كلياً وانكفأ بذلة الأمير الطامح بن سلمان إلى ظل المشهد الإقليمي، بينما برزت الكويت في المشهدين الإقليمي والدولي بصورة مغايرة لبياتها الطويل عديم الحيلة، فمن ضمان انتقال وفدنا إلى السويد وعودته، إلى معارضة مشروع قرار يدين حزب الله على خلفية ما يسمى (أزمة الأنفاق الحدودية) مع الكيان الصهيوني (وهو ما يعطي الكويت مساحة للدفع بتشكيل الحكومة اللبنانية التي أعاقتها السعودية)، كما ومعارضة مشروع القرار البريطاني الأمريكي بخصوص (اتفاقية ستوكهولم)، والذي احتوى على بند يدين ما سماه (تدخلات إيران العسكرية في اليمن وتزويد الحوثيين بالسلاح)..
كل ذلك وغيره من أحداث فارقة احتشد بها الأسبوع الأخير، يؤلف الخطوط الأولى العريضة لمنعطف الصراع البارد وتحولاته واصطفافات محاوره وأطرافه على المدى الزمني المتوسط من مستقبل المنطقة والعالم.
لم تعد أمريكا قادرة على حماية أدواتها في المنطقة (حلفائها مجازاً) أو صياغة مستقبلها بما يتماشى مع أفق مصالحها البعيد، وإذ تنتهج (إدارة ترامب) ـ وإن بخفوت وعلى نحو مموه ـ سياسة إعادة انتشار من تخوم الإمبراطورية التي كانت، إلى تخوم الوجود الغربي المتصدع والمهدد بألا يكون، تزحف الصين وروسيا وإيران ـ بخفوت كذلك ـ على مسرح العجز الأمريكي في الخليج وتركيا، فتعيد توجيه بوصلة الصراع وتكييف مسرحه لأدوار بديلة لا تنتمي لزمن حصرية مفهوم الأمن القومي الأمريكي وزمن أحادية الهيمنة، وهكذا تبرز الكويت برديف صيني لتعترض على مفهوم (معاداة إيران)، بينما تذوي السعودية ومعها فكرة (الأخ الأكبر) وتنسحب قطر من (أوبك) وتعلن انهيار (مجلس التعاون الخليجي) وتنشر غسيل النزاعات البينية الخليجية على حبل الإعلام علناً، وتفت ببراعة في عضد العائلة المالكة السعودية بـ(منشار خاشقجي) طلوعاً ونزولاً إلى أجل مسمى هو تفكيك المملكة دولةً وبناءً فوقياً ككيان لم يبرع في استخدام نخبة السلاح الغربي والعالمي الأحدث لِلْفَتِّ في عضد (الحوثي)، وأكثر من ذلك في حماية حدوده الجنوبية من (التوغلات الحوثية) اليومية داخلها.
قال سيد الثورة أبو جبريل مؤكداً قبل عامين: (زمن الرفاه والرخاء الخليجي انتهى وبلا رجعة..)، واليوم تتكشف علائم هذا الأفول الذي استشرفه سيد الثورة لعيان العامة قبل الخاصة، في صورة سلسلة من الإجراءات التقشفية والخصخصة التي تلجأ إليها المملكة عبثاً لمواجهة نفاد السيولة المتفاقم، وصولاً إلى اعتماد موازنتها بالتريليون بعد الملايين، وتحميل كاهل شعب نجد والحجاز تبعات مقامرات وفساد وحروب العائلة المالكة الفنتازية، خصماً من بقايا أقوات الرعايا المسحوقين؛ الذين لن يظلوا صامتين إلى الأبد ولاريب!
قد لا تكون ريوع صمود شعبنا وبسالة جيشنا ولجاننا وحكمة قيادتنا الثورية، ريوعاً منظورة مباشرة للعيان المحلي المحاصر والمعدم بفعل 4 أعوام من العدوان العسكري والاقتصادي الفاجر، لكن هذا لا يعني أنها بلا ريوع بالنسبة للممعن في مسرح الصراع وتداعياته على اتساع آفاقه وامتدادها، وكذلك هي الحال في ما يخص ريوع (اتفاقية ستوكهولم) التي عوَّل على مشاوراتها قطاع واسع من الشارع اليمني كثيراً، لجهة ضمان عودة المرتبات وفتح مطار صنعاء بالحد الأدنى صوب إنهاء الحصار كلياً، وكبح تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي، فلم يلمس ريوعاً منظورة أو على الأقل عاجلة بشأنها.
إن اللحظة الوطنية الفارقة التي نبذل أجسم التضحيات على مذبحها منذ أكثر من نصف عقد، واعدة بما هو أكبر من فوائد مساومة محدودة لوجه حقوق أصيلة لشعبنا في معايشه اليومية المختلفة، فهي لحظة مكتنزة بوجود وازن يتخلق مهيباً وسامقاً لشعب يصنع حاجاته ولا يقع أسيراً لها، ويؤثر في محيطه الإنساني الواسع ولا ينمحي في مهب تأثيراته،... شعب لا تتسول له شاشات الشفقة الإعلامية خبزاً وخياماً وقراب جلوكوز أممية، بعرض هياكل أبنائه من ضحايا سوء التغذية والكوليرا على جمهرة أنظار المحسنين وفاعلي الخير، بل تتسابق الميديا العالمية للظفر بنقل ملاحمه العلمية والإبداعية وإنجازاته الخلاقة في مختلف حقول النشاط الإنساني، كوجود جدير بنفخة الاستخلاف الإلهي، وقفت سنابك خيله ذات يوم على شواطئ (بحر الظلمات).
إننا لا نشتري الخبز ببطولاتنا، بل نجترح مستقبلاً من الكفاية الآدمية لكل المستضعفين في الأرض إزاء حاجاتهم الدنيا، ليكون بوسعهم الانبعاث من حضيض الفاقة إلى مصاف الغنى الإنساني بالحرية كأسمى قيمة بشرية..
إن من اجترحوا في خناق الحصار والتجويع معجزاتٍ، ليس آخرها امتلاك زمام تصنيع الأسلحة الذكية، لهم أجدر بأن يفتحوا العالم عوضاً عن أن يتسولوا العالم فتح مطار العاصمة باسم إنسانية لا اعتبار لها في قاموس عصر عبدة السوق وأربابها.

أترك تعليقاً

التعليقات