رئيس التحرير - صلاح الدكاك

الشعـــــب والدولـــــة ضَيْفـــــان والطائفـــــة ربُّ المنـــــزل
بيـروت.. عاصمة المقاومة وفيروز

لا ريب أن علم لبنان هو الأجمل بين أعلام دول العالم مجتمعة: شجرة أرز مثـلثة خضراء وديعة تحيل حواس المرء إلى هديل حمام وزقزقة عصافير وزخات مطر ونِدَف ثلج هـشــة تتشظى كالبلور على أكتاف عارية بضة بلون الثلج نفسه. ذرى الجبال بدأت تشيخ بفعل الصقيع.. إنه الأول من يناير، وأشعر بكم أنا محظوظ لأنني أدلف العام 2013م من بوابة بيروت.. من البعيد تضوع أنفاس (فيروز)، وأغرق منتشياً لدى الهبوط في دوامة تخمين: تحت أيِّ سقفٍ من سقوف القرميد هذه تقطن المَلاك؟! وماذا يدور بخلدها في هذه اللحظة يا ترى؟! وكيف بوسعي أن أصدِّق أن هذه الأيقونة السماوية هي حقيقة حية تمشي على قدمين؟! ويمكن ، لو ابتسم لي الحظ ، أن أصادفها هنا أو هناك (تركض بشمس الطرقات، أو تمسك بخيط طيارة من ورق وخيطان، أو تبيع مغازل صوف بدكانة على مفرق، أو تمر قفز غزالٍ بين الرصيف وبيني، أو تعبر شوارع المدينة مثل سهمٍ راجعٍ من سفر الزمان...).. كبرنا برفقتها وظلت (فيروز) طفلة صغيرة خارج طائلة الوقت تتخبأ (من درب الأعمار وتنسى أن تكبر [كما] نسي عبد الله البردوني أن يموت)... طـيلة 10 أيــام سأحتــرف مطـاردة غـير المرئي في المدينـة يشق أعماقي صوت ســؤالٍ كـثـيـف الشجــن: (وينن)؟!... وسيكون عزائي - في الأثناء - أنني أتسكع تحت سماء ظللت وتظلل غالبية (الأيقونات) التي أعبدها، وفوق تراب دارت وتدور عليه غالبية الأحداث التي كنت وما أزال سجين تفاصيلها.. من الجنون أن تفكر في أن تحسو بحر نبيذ اسمه (بيروت) دفعة واحدة، ومن الزهد الأبله والورع المقيت ألا تفكر في ذلك مهما بدا محالاً... إزاء مدينة فاتنة بلا حدود وتحبها لماذا قد تشعر بالحزن؟! أستطيع الجزم بأن حزناً غامراً لذيذاً واستثنائياً اجتاحني إزاء (بيروت). بأي دوافع ومن أي الزوايا داهمني..؟! لا أدري..
حزن ملهم تشعر معه بالانعتاق من أسر الجاذبية، وتصير خفيفاً وقادراً على التحليق إلى أبعد مما تتيحه الأمكنة، وعند نقطة ما من هذا المعراج تصبح المدينة فيك لا خارجك..
كتبت على حائطي في (فيسبوك): في بيروت وبلا كاميرا.. وعلـَّق بعض الأصدقاء الجميلين: نراهن على عينيك وأحاسيسك.. كيف غاب عني أن الكاميرا ، في أحسن الأحوال ـ ليست سوى آلة تحنيط تصلب الأمكنة على مربعات ورقية بليدة بعد أن تسلبها كل نبضها وجريانها العفوي وانفلاتها الحر والمفعم باحتمالات سحر وجمال ودهشة لا حصر لها.. أريد (بيروت) دافـئة طازجة نابضة طليقة تركض في البال بلا عنان، لا سجينة (ألبوم فوتوغرافي) يُهدر ثراء اللحظة النفسية وكثافتها وحرارة أنفاسها...
خشبة المسرح وجمهور النظَّارة
لا يعيش (لبنان) بمعزلٍ عما يدور في (سوريا) إيجاباً أو سلباً.. وطوعاً أو كرهاً يتشاطر البلدان مصيراً واحداً، وإذا كانت المسافة بين عاصمتيهما ضئيلة للغاية، ولا تتجاوز ساعتي سفر بالسيارة، فإن المسافة الاجتماعية تبدو معدومة بحيث يمكن القول إن بنى ومكونات المجتمعين هي امتداد لنسيج مشتبك متضافر واحد، الأمر الذي يجعل من سياسة (النأي بالنفس) التي تنتهجها حكومة (نجيب ميقاتي) حيال الأزمة الراهنة المحتدمة في (سوريا)، تكتيكا فصامياً لا يعفي (لبنان) من التبعات الفادحة للعاصفة على مستوى الواقع.
بعيداً عن التباينات الحادة في مواقف فرقاء العمل السياسي مما يدور في الجوار السوري؛ فإن طيف الشارع اللبناني الواسع يتقاطع حول كارثية المآل الذي سينتهي إليه لبنان بكل مكوناته في حال انهارت الدولة السورية لصالح نشوء نسخة أخرى من (ليبيا أو أفغانستان) تحكمها المليشيات الدينية المتطرفة..
إن شبح الحرب الأهلية الطاحنة لا يفارق مخيلات اللبنانيين، وظروف اندلاعها ناضجة بحيث تكفي بضعة أعواد ثقاب ليتحول البلد السياحي الأول عربياً إلى ساحة حرب شاسعة مدروزة بالمتاريس..
منذ وقت مبكر لنشوبها، تلقي الأزمة السورية بظلالها سلباً على المشهد اللبناني، فمن الصدامات المسلحة التي تنشب بين الحين والآخر في (طرابلس وصيدا)، مروراً بملف اللبنانيين المخطوفين لدى عصابات ما يسمى (الجيش الحر) واغتيال العقيد (وسام الحسن)، وقوفاً عند عشرات اللبنانيين الذين تسللوا إلى الأراضي السورية للقتال في صفوف العصابات المسلحة، وقضوا على أيدي الجيش العربي السوري في (تلكلخ)، لتسلـِّم الحكومة السورية جثامينهم إلى أهاليهم لاحقاً..
في موازاة ذلك، تشهد الأراضي اللبنانية موجات نزوح مطـَّردة من الجانب السوري إليها، تعيد إلى الذهن الجمعي هناك، الصورة المؤرقة والمأساوية لموجات النزوح الفلسطيني الشهيرة خلال النصف الثاني من القرن الفائت، وامتداداً لتضارب مواقف الفرقاء السياسيين نفسها من المشهد السوري، يفتح فريق سياسي أحضانه للنازحين، وينحاز بشدة لصالح استيعابهم كواجب تمليه الإنسانية، فيما يطالب فريق آخر بإغلاق الحدود رسمياً في وجههم، متذرعاً بأن ملف النازحين هو مظلة يدفع (النظام السوري) تحتها بمخابراته ومقاتليه لتفجير الوضع في لبنان، تنفيساً عن الخناق الذي يعيشه..
وأياً كانت المواقف، فإنها تؤكد في مجملها أمراً واحداً مفاده أن تعافي لبنان مرهونٌ بتعافي الدولة السورية وفشل محاولات إسقاطها.. هكذا هو الوضع اليوم، وهكذا كان دائماً.. بصرف النظر عن لؤم المتشدقين باستقلالية لبنان، وترف الحديث عن (سوريا الكبرى) التي يقع (لبنان) ضمن خارطتها الطبيعية الممتدة..
إن خشبة المسرح في دمشق وجمهور النظـَّـارة في بيروت والعكس.. تلك بديهية يمليها واقع الصلات الاجتماعية الإثنية والدينية التي لم تفلح مباضع (سايكس بيكو) في بترها رغم استمرارها المستميت في المحاولة.. والذين يطالبون اليوم بإغلاق الحدود اللبنانية مع سوريا أمام النازحين، هم ذاتهم الذين أشرعوا التراب والأحضان للعدو الإسرائيلي، ونثروا الأرز على رؤوس قواته خلال اجتياحها الأول 1978م، واجتياحها الثاني 1982م للبنان..

الطائفة والطبقة والمقاومة
ليس الخبر أن تقول إن (لبنان) بلد الطوائف، فهذه السمة باتت يقيناً لا خلاف عليه في نظر الغالبية.. الخبر أن تقول إنه لا طوائف في (لبنان)، وأن (الطائفية) هي لعبة (الأقلية الطبقية المسيطرة) على الشأن السياسي في بلد ظلَّ أممياً في علاقاته، وناضل معظم أبنائه دائماً مع مختلف الأعراق والجنسيات، بقاسم إنساني مشترك، ضد مشاريع قوى الهيمنة والاستغلال العالمي الرامية لتفتيت التلاحم الطبقي الحتمي بين ضحايا الاستغلال على مستوى الشعب الواحد وعلى مستوى شعوب العالم في علاقتها ببعضها البعض..
مقتفياً خـُـطى (مهدي عامل) في (نقد الفكر اليومي، وفي الدولة الطائفية)، أتسكع في (بيروت)، فتتبدى لي المدينة على نقيض ما هي عليه في الخطاب الإعلامي السياسي اليومي الذي يكوِّمها بين إصبعي (جعجع والحريري)، ويقدِّم بناها الاجتماعية باعتبارها قطعاناً تنام وتصحو بإشارة من (أمراء الطوائف)..
تتبدى (بيروت) أنموذجاً للتفاوت الطبقي الصارخ، ففي مقابل (الفيلَّلا) الغافية بترف في سفوح وذرى القوس الجبلي الأخضر المديد الذي يوازي قوس زرقة البحر الأبيض المتوسط، تتكدس (بلوكات الأبنية الشعبية الجماعية) وبيوت الصفيح ومخيمات اللاجئين في خناق المسافة بين البحر والجبل، تزاحمها الاستثمارات الصناعية والخدمية و(المولات التجارية الفخمة)..
وفي مقابل لا طائفية شرائح المجتمع التي يصهرها في بوتقة واحدة أرقُ الكدح في سبيل البقاء، تلوح الدولة كرهينة مشلولة تتشاطرها حصصاً مراكزُ القوى الطائفية المؤلفة لطبقة الحكم، الأمر الذي يفسِّـر ضآلة الدور الذي يفترض أن تلعبه كجهاز مؤسسي يمثل الصالح العام على مختلف الأصعدة، خلافاً لمراكز القوى التي تنهض - في إطار هذه المعادلة المختلة - بأدوار ترفعها عملياً لمصاف وصفها دولاً متفاوتة الثقل داخل الدولة الديكورية الواحدة..
إن قيادة (الطائفة مجازاً) ليست قيادة دينية أو مذهبية أو عرقية، بل قيادة (سيا اقتصادية علمانية) تتخذ قراراتها وتبني مواقفها وفقاً لما تمليه المصلحة الطبقية المحضة، لا المذهب ولا الدين، لذا فإن علينا ألا نقع في فخ التصوُّر الطائفي الذي يُـوهم بأن الفجوة بين رجل أعمال مسيحي وعامل مسيحي متدين في الميناء، ينبغي أن تكون ضئيلة قياساً بالفجوة الشاسعة افتراضاً بينه وبين رجل أعمال وهابي نزولاً عند معيار الانتماء الديني والمذهبي.. وحتى لو جاز لهذا أن يحدث، فلأسباب لا علاقة لها بالعقيدة..
حين أرادت (الكولونيالية الفرنسية) لحظة انسحابها من لبنان، أن تجعل من هذا البلد (عمقاً فرانكوفونياً) يتيح لها إدارة مصالحها عن بعد بسلاسة، تعيَّن عليها أن تؤسس لذلك بمقولة (لبنان وطناً للمسيحيين)، الرديفة، وأن تعثر بين اللبنانيين على الفئة التي توكل إليها دفة ريادة هذا الخطاب الذي يستدعي التجانس الديني عبر القطيعة الكاملة مع الوشائج الأخرى، كالحال مع مقولة (باكستان المسلمة) التي ضمن بها البريطانيون استمرار نزيف الهند المناضلة في سبيل النهوض عقب الاستقلال.
غير أن هذا الخطاب، الذي يـُذكـِّـر باتفاقية قديمة أبرمها الإنجليز مع سلطات الاحتلال العثماني، تتيح لهم الوصاية على مسيحيي الشرق، لم يجد في أوساط النخبة اللبنانية المسيحية سوى عدد محدود ينهض به كرافعة محلية بالنيابة، فيما ذهب معظم هذه النخبة - على النقيض - يؤصلون لهويات رحبة مناهضة بشدة لاجتـثاث (لبنان) من عمقه التاريخي ومجاله الحضاري الحيوي، فشهدت الساحة السياسية والفكرية نشوء نظريتين؛ إحداهما وطنية ترى في (لبنان) جزءاً لا يتجزأ من (سوريا الكبرى الطبيعية) والمتعددة الأعراق والمعتقدات، وهي الرؤية التي بلورها (أنطون سعادة)، وأسس لها رافعتها السياسية المناضلة لتحقيقها، متمثلة في (الحزب القومي السوري الاجتماعي)، بينما أخذت النظرية الأخرى منحى قومياً عروبـياً، وتجسدت في أفكار (ميشـيل عـفــلـق ورفاقــه)، والتأمت أيديولوجـياً وسياسـياً في صـورة (حزب البعث العربي الاشتراكي) الذي رفع شعار (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة)... وتبنـَّى الاشتراكية على المصاف الاقتصادي.
في الأثناء، كان اليسار اللبناني، وقد انتهج بوضوح الماركسية اللينينية مساراً داخل حركة القوميين العرب؛ يناضل على نحو شارف معه (لبنان) أن يكون - بحق - (كومونة الشرق) الحاضنة لحلم التحويل الاشتراكي، والمشرعة أممياً ـ وبلا أنانية - أمام كل المناضلين المنذورين لهذا الحلم من مختلف بلدان العالم.. وفي خمسينيات وستينيات القرن الفائت مثلت نجاحات (عبد الناصر) وحضوره الغامر، فناراً ملهماً لطيف المشهد السياسي اللبناني الواسع، ورفدت الحركة الوطنية بزخم نضالي بات من المؤكد معه أن سلخ (لبنان) عن محيطه الرحب أمرٌ بعيد المنال..
إن بناء (لبنان) بلداً لكل أبنائه في ظل عدالة اجتماعية، منسجماً مع محيطه العربي، مناضلاً معه بمشترك رفض التبعية لقوى الاستغلال العالمي، هو- في مجمله - ما جعل من هذا البلد الصغير في مساحته فيصلاً رئيساً على مصاف الصراع العربي مع العدو الصهيوني؛ لذا فإن القضية الفلسطينية لم تكن قضية ترفية على هامش صراع طرفي المشهد السياسي الداخلي في لبنان: القوى الوطنية من جهة، والقوى الممثلة للخطاب الكولونيالي المضاد من جهة أخرى.. بل كانت في بؤرة الصراع الداخلي، وقيمة أساسية فيه، كما ومؤشراً حساساً على مستقبل الدولة اللبنانية التي تحترب حول فلسفة بنائها وما ينبغي أن تكون عليه، رؤيتان نقيضان.. ومهما بدا أن هذا الصراع قد حسم - في الراهن - لصالح أنصار الخطاب الطائفي، فإن واقع الحال المسكوت عنه يبرهن على أنه لم يحسم بعد، ولا يزال مستمراً، ولا تزال القضية الفلسطينية في عمقه، حجر التوازن المسنود بزنود المقاومة وطنية وشيوعية وإسلامية.    
غادر جيش الثورة الفلسطينية لبنان..
وُقــِّـعت اتفاقية (الطائف)..
انهار الاتحاد السوفياتي..
انسحب العدو الإسرائيلي من الجنوب مدحوراً..
غادر الجيش العربي السوري.. 
وظلت صخرة المقاومة صلبة منيعة تتحطم عليها فــؤوس الذرائع وسواطير المؤامرات، وبرهنت حرب تمــوز 2006 أن إنهاء الاحتلال الصهيوني لفلسطـين هو جسر العبور لبناء   (لبنان) قوي مستقل، وأن استمرار هذا الاحتلال يعني استمرار (لبنان) مستنزفاً مهدداً غير مستقر وبلا سيادة.. إنه المشروع الوطني الذي يقابله - على الضفة النقيض - مشروع طائفي لا يتحرج من اعتبار (سوريا العروبية العلمانية) تهديداً حصـرياً لســيادة لبنان، ويضع من (إنهاء الدولة السورية) هدفــاً له على طريق استعـادة الســيادة المزعومة.
(لقد أثبتت الأحداث أن العدو في دمشق وأدواته في لبنان)، بهذا المنطق يحاول (جعجع) أن يحرف بوصلة الصراع لصالح مشروعه الكتائبي الكولونيالي الجديد القديم الذي لا تستفـزُّه مشاهد ذبح المسيحيين على الهوية، في سوريا، على أيدي العصابات الإرهابية المدعومة من فريقه السياسي اللابس مسوح الغيرة على المسيحيين والسنة.

أنا وبيروت وأبي
جهاز تسجيل صغير موصول بسماعَتَي رأس ومثبَّت على حزام بنطلون تلميذ الابتدائية الذي يقود دراجته الهوائية بلا وجهة في شوارع تعز، في نهارات العام 1982م، منتشياً، وتكهرب مسامات جلده (أغاني العاشقين): (آهـ يـا بـيروت يا نصلاً بعيد الغور، يا جرحاً في جبين الكبرياء..)..
ـ صرخة نزار قباني تخدش غلالة السماء: (بيروت تـُـذبح كالدجاجة في الطريق فأين فرَّ العاشقون..)..
ـ محمود درويش ينزف أحلامه وآياته الغاضبة وسبابه النبوي من على مئذنة ضمير شاهق: (علَّمْتَنِي الأسماء لولا هذه الدول اللقيطة لم تكن بيروت ثكلى)..
ـ ماجدة الرومي تستنهض كبرياء المدينة المهيضة والمغدورة: (قومي من تحت الردم كزهرة لوزٍ في نيسان.. قومي يا بيروت قومي..).. 
ـ قناني (كولونيا ريف دور) خلف واجهة العرض الزجاجية تلفحها الشمس فتشيع برائحتها في فضاء دكاننا الصغير جواً حالماً وأنا أطالع صور أشلاء (صبرا وشاتيلا) في مجلة (المصور)، ولاحقاً صور أجساد جنود المارينز الأمريكي المطمورة تحت أنقاض مقر إقامتهم الذي فجَّرته (المقاومة) في بيروت..
لا أدري لكم من السنوات استغرقتني (بيروت) ودوختني أخبارها، غير أن بمقدوري الجزم أنها كانت المدينة العربية الأولى التي سكنتني عميقاً، وأشعلت عن بعد جذوة أحاسيسي القومية، كما أستطيع الجزم بأن أول امـرأة أحبـبـتـها وحطمت الصـورة النمطــية التقـلـيديــة للمــرأة في ذهنــي، كــانت بــيروتــية اسمــها (سناء محيدلي).. فدائية من الحزب القومي السوري الاجتماعي، نسفت بنثار جسدها في ليلة زفافها حاجـزاً عسكرياً للعدو الإسرائيلي في بيروت.. صورتها الملصقة إلى جوار وسادة نومي، والتي حصلت عليها كهدية عدد لإحدى المجلات، ظلت كُحْل عيوني مساء صباح، إلى أن غادرنا منزل الإيجار.
منذ قرابة 30 عاماً أحمل للمدينة خارطة نفسية حية تخلّقت على امتداد أطوار نشأتي؛ في زاوية من أدفأ زوايا الذاكرة، وعندما شرعت في لعبة تخمين مثيرة لدى هبوطنا، كنت شبيهاً برحالة انتهى به طوافه الطويل على جزيرة حكايات مليئة بالكنوز، فراح بخليط من اللهفة والارتباك يسقط ما بحوزته لها من إحداثيات على الواقع، تختلج أعماقه بطمع عارم في أن يقلب ترابها رأساً على عقب ليضع يده على كل كنوزها.. متحسراً في الوقت ذاته لحقيقة أن مركبه لا يقوى حتى على حمل كسور نفائسها.
أستعيد على تماس الذاكرة مع المكان، مشهـداً ثمانـيـنـيـاً لتـلميذ الابتــدائية وهــو يلــحُّ على والـده بأن يصحبه إلى مبنى البريد لـيـبعـث بطرد يحوي إجاباته على مسابـقـات سلسلتي (ما وراء الكون) و(بساط الريح) المصوَّرتين.. لطالما دوَّخني عَشَمُ الفوز بـ(غرندايزر مطاطي)، وهيأت ـ سلفاً ـ مكاناً سرياً يكون بمثابة وكرٍ لماردي الموعود يباغت الأعداء منه بقيادتي.. قال والدي ـ بنبرة هازئة ومتعاطفة ـ وهو يدفع بالطرد لموظف البريد من خلال النافذة الزجاجية: (لبنان تطحنه الحرب الأهلية، وصاحبنا يشتي منهم غرندايزر).. كان كمن يبرر للموظف دافعه لإرسال رسالة إلى (لبنان) في ذلك المنعطف الكارثي من عمر البلد.
لكنني كنت ممتناً له نزوله عند رغبتي على سذاجتها، وظللت بعدها أنتظر وصول (المارد الحلم) الذي لم يصل بعد!
لم تعد (بيروت) التي راسلتها في 1984م، هي ذاتها (بيروت) التي أدلفها اليوم ـ بفرط الخشوع ـ في الأول من يناير 2013م، إلا أن ذلك لا يغير شيئاً في الخارطة النفسية (المضبوبة) في أدفأ زوايا ذاكرتي لها. تؤكد فيروز: (... ما في غيرك يا وطني بتظلك طفل زغيَّر).. بالرغم من أن 15 عاماً من الحرب الأهلية غربلت تراب المدينة ـ برمته ـ عدا مساحة يسيرة محظوظة منه، وأفرزت واقعاً ديموغرافياً نفسياً اجتماعياً مغايراً لما كان عليه الحال لحظة نشوب الحرب في العام 1975م.
كَبَحَتْ متاريسُ الموت المتبادل جموحَ روح الحياة اللبنانية النهمة بلا حدود ولا محاذير، ونزوع إنسانها العفوي لفضاء تشاركي أممي عام.. وبات غربال الهويات الانعزالية التي أنتجت نفسها في الواقع على هيئة أمكنة مسيَّـجة طائفياً، هو الشبكية التي يَعْبُرُ من خلالها (الآخر) إلى عين اللبناني، منخولاً من كل مغايرة أو مثقلاً بغيريَّته واختلافه وعاجزاً عن عبور ثقوب الغربال.
كان معمارُ (بيروت) يتمدد ضيقاً واتساعاً على مداميك الأهلية الاقتصادية والتنوع الاجتماعي الإثني والديني المتسامح، والتجانس الطبقي، وأمسى محكوماً بنفوذ (الطائفة) وحدود مخاوفها الأمنية والسياسية ومتاحات استثماراتها والمغزى منها.
عندما شرعت الشفرات والبواريد المشحوذة على سمبادة الطائفية والمحشوة بذخيرة الكراهية في لعبتها الدموية، أُرغم مجتمع المدينة على إعادة الانتشار طائفياً على النحو الذي يضمن معه ألا تزهق روحه بفعل التباس هويته في عيني قاتله.. حصدت دوامة الموت زهاء 170 ألفاً من الأرواح في مجتمع تعداده اليوم 4 ملايين نسمة.. وحين قدِّر لها أن تتوقف في 1989م، كانت النهاية بداية لمرحلة ليست أقل قبحاً من سابقتها، فبينما كان (جدار برلين) على وشك الانهيار، كانت (اتفاقية الطائف) ترفع قواعد جدران العزل الطائفي، وتفرز (بيروت) إلى مجموعة شرانـق، وتقـرر أنصبة نفوذ (الأسر الكريمة) في أرض (لبنان) ودولته.
إن الحرب الأهلية ـ في حقيقة الأمر ـ لم تكن شأناً لبنانياً خاصاً أو صرفاً بحيث يمكن حسمها باتفاقية سياسية تتعاطى معها باعتبارها نسقاً مستقلاً نائياً لا يتقاطع مع ما حوله من أحداث عاصفة في تلك الفترة من تاريخ البلد، ومنزوعاً من نسيج الظروف التي تخلـَّـق في خضم تعقيداتها.
وبما أن الاتفــاقـية الآنـفـة قَارَبَتْ الحربَ كنسـق خاص معـزول، فإن الذي تم حسمه من خلالها ليس الحرب ـ بطبيعة الحال ـ بل صورة (لبنان ـ وبيروت تحديداً) التي تقرَّر لها أن تكون (جيتو) محلياً موصداً ومرتاباً يتلاشى فيه الفرد في بوتـقـة الطائفة القـابضة على العصا والجزرة؛ تحت وطأة خوفه الغريزي من الانقراض.. لقد أغفلت الاتفاقية حقيقة استمرار الاحتلال الإسرائيلي الناجم عن اجتياح 1982م، فكانت من حيث الجوهر تقنيناً رسَّخ النتائج الكارثية التي استهدف العدو ترسيخها من وراء الاجتياح، حتى مع كونها أضفت الشرعية على سلاح المقاومة المتمثـلة في (حزب الله).. (كفصيل لم ينخرط في الحرب الأهلية)، وأكدت حق (لبنان) في التخلص من الاحتلال واستعادة سيادته.. ببساطة كان إبرام الاتفاقية بمثابة ترسيم للتشوهات التي أفرزتها الحرب على الأرض، باستثمار شارع منهك وخائف وقوى وطنية تهتكت أوصالها ويسار مثخن فقد القدرة على الاستمرار في الصراع بانهيار المعسكر الشرقي.. وفي مناخ كهذا رضخت (الكومونة الأممية) رسمياً (للطائفية) باعتبارها مشروع الأمر الواقع، وتحولت إلى (جيتو) خانق ورديء التهوية.. تكفلت (الاتفاقية) بإعادة إعماره على نمط استهلاكي معولم لا ينتمي لما كان يحلم به، ولا يشبه ما كان عليه.

التاكس
(التاكسي) في (بيروت) ليس وسيلة مواصلات فحسب، بل (كبسولة) كثيفة تضعك في مشهد الحياة اللبنانية اليومية بأنساقها الاجتماعية السياسية والاقتصادية والثقافية، وفي الغالب، فإنها تذهب بك زمنياً إلى أبعد من الوجهة التي تريد بلوغها في المكان.. معظـم السـائـقـيـن الذيـن أقلُّوني كانـوا على درجة لافتة من قيافـة الملبـس، ومن فـئة عمـرية بيـن 35 و60 عاماً، ومركباتهم نظيفة ومرتبة على الدوام، والأرجح أنهم ينتمون إلى الطبقة المتوسطة ومن العاملين في وظائف حكومية، بحيث تسهل ملاحظة أن (التاكس) ليس مصدر دخلهم الوحيد، لكن الاشتغال به ليس ترفاً بقدر ما هو حاجة ملحة في مواجهة المعيشة اللبنانية باهظة الكلفة، لاسيما في شقها المتعلق بتوفير سكن لائق، حيث الحد الأدنى للإيجار يبدأ من 500 دولار عن شقة مقبولة كسكن آدمي، ويتجاوز ذلك إلى الضعف في المتوسط عن شقة فسيحة نسبياً ومتينة البناء ويتدفق إليها الهواء بكمية أكبر.. يمكنك مفاصلة السائق حول المبلغ نظير مشاويرك دون حرج، وفي العادة فإن الانتقال داخل حدود الدائرة التي تضم أبرز معالم العاصمة بيروت وأنشط أحيائها، يكلفك 15 ألف ليرة لبنانية ـ أي 10 دولارات ـ عن المشوار في (التاكسي)، وثلث ذلك فيما إذا استقللته كـ(سرفيس) يقل ركاباً آخرين إلى جوارك..
من النادر ألا يلفت لون بشرتك نظر السائق، فيسألك (من وين الأستاذ؟!)، ولا تستغرب إن تعدَّى ذلك إلى سؤال عن مذهبك أو دينك؟! فالمعتقد الديني لدى اللبناني ـ في الأغلب ـ بات المعادل الموضوعي للمعتقد السياسي، والسؤال عنه هو بمثابة السؤال عن الحزب الذي تنتمي إليه.. أكثر من ذلك، فإن المعتقد هو الهوية الجامعة لما يرغب هو في معرفته عنك على كل مصافاتك ومناشطك الاجتماعية.. يحاول اللبناني أن يُحْدِث بأسئلته ثغرة في تحصيناتك يطل منها على دخائلك ليتأكد من أنك تشبهه فيسترسل في حديثه معك، أو يتبين له العكس فيصمت مكتفياً بابتسامة حصيفة ومتحفظة، وأحياناً فإن اكتشاف غيريَّتك يدفعه للاستمرار في إعلان قناعاته بحدة متأدبة ومستفزة.. كاد حديثي مع أحدهم يتحول إلى مشاجرة، إذ يبدو أنه لمَّا لم يعثر على أوجه شبه تجمعني به بخصوص ما يسميه هو (ثورة سورية) وأسميه أنا إرهاباً، راح يكيل الشتائم المقذعة (للأسد الابن والأب) كإعلان صارخ وبذيء عن ضديته لي.. وتلافياً لعواقب قد تفسد عليَّ مزاجي في الطريق إلى شارع (الحمراء)، اختزلت مغايرتي في ابتسامة حصيفة مشفوعة بمقولة (فولتير) الشهيرة عن استعداده لأن يدفع رأسه ثمناً لحرية الآخر في الهراء.. بما أنني قلت إنني كنت في طريقي إلى شارع (الحمراء) الواقع في متن حي (الحمراء) المحظوظ، والذي يجمع المراقبون على أنه الناجي الوحيد من مخالب الطائفية وبواريدها بين أحياء بيروت، فسيتدفق من أرشيف ذاكرتي السمعية صوت الشحرورة وهي تغني: (خدته عالحمرا مشوار قلِّي دخلك عقلي طار...)، أمام قدرة هذه المدينة على أن توغل عميقاً في الذاكرة وتهيل على رأس صاحبها هرماً كبيراً هو خليط من فوضى أصوات وأحداث وصور وأسماء، أشعر بكم أنا عجوز وكم هي (بيروت) مثيرة برغم كونها أمست مجمعاً استهلاكياً كبيراً تعجز محفظة نقودي عن فتح مغاليقه واكتناه لذاته ومباهجه... صرير عجلات سيارة (سبورت) حمراء فخمة وبلا سقف تقصف أرجاء المكان بأغنية أجنبية صاخبة، وسط شارع (الحمراء) المرصوف بعناية، ويطوح سائقها الشاب خصلات شعره الطويل كمروحة يساراً ويميناً.. سيناريو طبقي أنيق وفج بين عشرات السيناريوهات الشبيهة التي يستجوبك من خلالها الشارع البيروتي الأكثر شهرة بنبرة متحدية ومباهية: من أنت؟! ما حجم العملة التي تتسلح بها؟! هل تتمتع بالندية الكافية للتسكع هنا؟!... إنها ـ على نقيض معظم استفهامات بيروت ـ أسئلة تنبش خلف هويتك الطبقية لا الطائفية.. عيون الصيرفي ذي الأنف المعقوف وهو يقايضك الدولارات بالليرات، تلعنك بدبلوماسية لأنك تُضَيِّع وقته على مقايضة مبلغ تافه... أنت في تخمينه ـ ولا ريب ـ كُرْدِيٌّ بائس يحاول أن يتمظهر، أو لعلك لاجئ سوري لا حاجة للشارع به!
إن المال، في شارع ينظر إليك كزبون من خلف ضلفتي متجر و(مول وبار) وملهى ليلي، هو طائفة ومذهب ودين بحد ذاته..
فيما تلوذ بحي (الحمراء وشارعه الشهير) هرباً من مفارز الارتياب الطائفي، فإنك تقعُ تحت طائلة الفرز كمستهلك ينبغي ألا يتوقع أن يحظى بأكثر من ابتسامات وعبارات ترضية ينفحها عليه الباعة على نحو مسرحي مدروس.. ليست الهوية الكونية التي توهمك ماركات الأشربة والألبسة وأسماء المحال في حي الحمراء؛ بأنك صرتَ على عتباتها، أكثر اتساعاً من شرنقة الطائفة التي تتخطَّفك لافتاتها السياسية في تنقُّلاتك بين أحياء بيروت الأخرى.. كلاهما لا يمنحانك الدفء الذي تتوقعه من مدينة ظلت لعقود آلهة للخصب، وأرضعت الشعراء والكُتّاب والفنانين حليب القمر، وحَقَنَتْ مخيلاتهم بهوس اجتراح المستحيل.
لا يليق (ببيروت) أن تتحول إلى مجرد مدينة جميلة على بحر باذخ الزرقة.. مدينة تحضر في أحسن الأحوال كخلفية مائزة لصورة تذكارية مرتجلة التقطها سائح عابر!
من المفيد جداً أن نضع (سائح عابر) هذه بين قوسين، لأنها تعيننا على فهم ما آلت إليه (بيروت) اليوم، وفهم إشكاليةٍ باتت ـ في صلب تكوين الذهن الجمعي اللبناني ـ مُحَدِّداً مهماً ينتظم شكل علاقته بـ(الآخر).. 
إن واقعة النزوح الفلسطيني الكبير إبان النكبة في 1948م، وما تلاه من موجات نزوح في 1967م و1970م، بالتضافر مع تعقيدات الوضع الداخلي (للبنان)، جعلت مجتمعه الصغير بنسيجه التعددي الكثيف، شديدَ الحساسية والتحفُّظ إزاء وافدٍ محتمل يهدده بالانمحاء أو الولوج في منعطفات أخرى دامية. على خلفية تجارب من هذا القبيل، تخلـَّـقت لدى اللبناني عقدة من إمكانية أن يُمسي بلده بين لحظة وأخرى مَضَافاً مكرهاً لهجرات مستوطنة إلى أجل غير مسمَّى.. شعوره بفقدان السيطرة على حدوده الجغرافية ألجأه ـ كتعويض ـ لتحصين حدود سياجه النفسي الذي أصبح بتوالي الأيام محبساً يعيق اتصاله السلس بالآخر.. يمكن القول: إن علاقته بالبحر ـ بما هو بوابة مشرعة ـ تـشوَّشت هي الأخرى؛ ينظر في اتساعه فلا يرى النوارس، بل بوارج العدو الحربية، وسفناً مكتظة بنازحين جدد، أو أحباب هاجروا إلى غير عودة.. في سياق نفسي اجتماعي تاريخي تهيمن عليه فوبيا الآخر الوافد كهذا، يمكن أن نلمس الوَقْعَ اللطيف والمحبب لـ(سائح عابر) في النفسية اللبنانية.. إن السائح هو شخص ينفق الكثير من المال ولا يمكث طويلاً مهما امتدت إقامته.. وهما صفتان مفيدتان لصحة اقتصاد لبنان وصحة إنسانه.. زائر محايد، ولا ينحاز سوى لنهمه في الحياة.
في مطار (بيروت) سيكون عليك أن تملأ استمارة بيانات شخصية تتضمن أسئلة شتى، بينها سؤال عن غرض قدومك إلى لبنان؟!.. يحدث هذا ـ في العادة ـ على عتبات بلدان كثيرة.. لكنه يكتسب طابعاً خاصاً هنا.. الحي والشارع الذي ستقيم فيه خلال زيارتك ليس مجرد نزل مكاني.. إنه انتماء سياسي وانحياز صارخ لطائفة دون أخرى.. وبطبيعة الحال فإن تأشيرك على خانة (سياحة) بين خيارات الإجابة على سؤال الهدف من قدومك، سيكفل لك انفراجاً نسبياً في ملامح ضابط أو ضابطة المنفذ المُغْتَمَّـة حين يمهر/ تمهر جواز سفرك بختم استكمال طقوس العبور الآمن إلى لبنان.
بلد فـــيـروز، مارسيل، جوليا بطرس، خليل حاوي، ماجدة الرومي؛ جورج إبراهيم عبدالله، أنيس النقاش، حسن نصر الله، سناء محيدلي، درويــش، نـاجـي العـلي، أبـو عـمــار،  وجــبـريــل.. لـبنـان (بــسـاط الــريــح ومـا وراء الـكــون). بلد الـ4 ملايين مواطن مقيم والـ16 مليون مهاجر!

أترك تعليقاً

التعليقات