رئيس التحرير - صلاح الدكاك

ثمة زاوية محورية في قضية (خاشقجي جيت)، تتعمد دوائر ووسائط صناعة الرأي العام العالمية إدارة الظهر لها في مقارباتها لملابسات القضية التي بدأت دولية الذيوع منذ اللحظة الأولى لولوج الصحفي الإخواني الملكي المجني عليه قنصلية بلاده في إسطنبول، وصولاً إلى اعتراف الرياض بواقعة مقتله على أيدي فريق مخابرات سعودية.
هذه الزاوية المهملة عمداً من قبل الميديا العالمية، تتمثل في مجموع الأزمات البنيوية المتفاقمة التي يعاني منها مركز الهيمنة الامبريالية الكونية، بفعل موجات الخيبات والإخفاقات المتلاحقة التي تتعرض لها التخوم الشرقية لامبراطوريته كمسرح حيوي هو الأهم لجهة نفوذها ووجودها الحاكم على خارطة العالم.
لذا فإن إعادة توجيه هذه الأزمات صوب التخوم هو السبيل الوحيد الذي يحاول من خلاله الغرب الامبريالي تحاشي انفجارها في مركز الإمبراطورية، عبر تفكيكها في متنفس آمن على غرار الخلاص من مخلفات النشاط النووي للعالم الأول بدفنها في بلدان ما يسمى العالم الثالث.
إن البناء الفوقي السياسي التركي، الذي خسر الحرب على سوريا بالوكالة عن أمريكا والغرب الامبريالي، يتعين عليه أن يتحمل تبعات هذه الخسارة بالأصالة عن نفسه فحسب ككيان شرقي لا صلة للغرب بمقامراته الخائبة، وكذلك الحال بالنسبة للكيان الوظيفي السعودي المثخن والمثقل بأبهظ وأفدح الفواتير المترتبة على خسارة سلسلة من الحروب بالوكالة في المنطقة، أبرزها الحرب العدوانية المستمرة على اليمن.
إنها أزمة تخوم خالصة لا أزمة مركز وفقاً للصورة التي يعمل الغرب على تسويقها، فإذا كانت (تركيا أردوغان) و(مملكة بني سعود) قد فشلتا في تقطيع أوصال سوريا والعراق واليمن، فإن عليهما أن تدفعا ثمن نجاحهما في تقطيع أوصال (خاشقجي)، تبعاً لما تقتضيه حاجة المركز إلى امتصاص عواصف خيباته في التخوم، حتى لا تضربه في عقر داره، الأمر الذي يعيد إلى أذهاننا مقولة (جورج بوش الابن) عقب واقعة 11 سبتمبر 2001، وفي معرض تأصيله لغزو العالم استثماراً للفاجعة المفتعلة: (علينا أن نداهم الإرهاب في أوكاره قبل أن يداهمنا في عواصمنا)!
ربما كانت أمريكا حينها في حالة مد، على نقيض ما هي عليه اليوم من حالة جزر ملحوظ، غير أن الوجهة الاستراتيجية التي جرى ويجري التمهيد لها بوقائع مفتعلة، كانت ولا تزال الوجهة ذاتها: (إعادة إنتاج العالم وتشكيله بما يتساوق مع متغيرات الهيمنة الأمريكية إيجاباً وسلباً). في سبتمبر 2001 هدفت أمريكا إلى تسوير الكرة الأرضية وتحريزها حصراً كملكية عقائدية ومادية تابعة للواحدية القطبية، وفي الراهن تهدف لتسوير مسرح نفوذها المتداعي في (الشرق الأوسط) للحد من زحف المتغيرات السلبية المرتدة عليه، وكبح تفشي جذام الضمور في تخوم الإمبراطورية عند أدنى حد ممكن لتشتيت الانتباه عن حقيقة ظهور أعراضه في مركزها.
إن المحارب بالوكالة عن أمريكا لا يمكنه أن يسبح في نهر حاجتها إليه وثقتها فيه مرتين. وسواء نجح الوكيل أو أخفق في حربه، فإن الحاجة الأمريكية الأرجح في نهاية المطاف تبقى لاستبداله أو التضحية به، بالشواهد التاريخية الحافلة المتعلقة بنهايات المحاربين بالوكالة، ليس بدءاً بـ(عيدي أمين) و(بن علي) و(مبارك) و(علي صالح)، ولا انتهاءً بـ(الملك عبدالله بن عبدالعزيز) ونجله!
مراراً أعاد سيد الثورة السيد عبدالملك الحوثي تذكير بني سعود بهذا المآل في علاقة أمريكا بأدواتها، لتتمظهر عاقبة عجزهم عن الإصغاء وخيمة وموجبة لعبرة نظرائهم وشماتة ضحايا صبيانيتهم وحماقاتهم الآوية إلى جبل لا يعصم من الماء وركن غير مكين.
وفي حين يبدو (أردوغان) لغالبية الأعين فحل اللحظة وبطلها، على خلفية فضيحة (خاشقجي جيت)، فإن مجريات الفضيحة الكونية التي دارت على مسرحين (تركي ـ سعودي)، تشير إلى أن السلطان العثماني يشاطر الملك وولي عهده ذات الخازوق المزدوج المعد في كواليس القرار الغربي العميقة، والذي تتحكم هذه الكواليس بالأكلاف المطلوبة نوعاً وكماً على شرفه من (رياض بن سلمان) و(أنقرة أردوعان).
إن فشل صفقة القرن وتصفية القضية الفلسطينية ومضاعفات الهزيمة في الحرب على اليمن، تعني نفوق الحاجة الصهيونية لـ(بن سلمان)، كما أن خسارة أردوغان للحرب في سوريا ونفوق صورته كخليفة عثماني مرسل لنجدة فلسطين، يعني بروز الحاجة الأمريكية إلى خليفة آخر يؤمن بحق إسرائيل في الوجود، ويتعايش مع متغيرات انتصار سوريا كأمر واقع.
لا تريد أمريكا، ومعها الغرب الامبريالي بالعموم، أن تصب متغيرات ضمور نفوذها في جعبة محور المقاومة، في نهاية المطاف، وهذا يفسر بروز بريطانيا مجدداً إلى واجهة المسرح الاستعماري القديم، كرديف يحاول شغل مساحة العجز الأمريكي غربياً قدر المستطاع، حتى لا يقع المسرح برمته خارج الحيازة الغربية؛ غير أنه لا بأس من ترك الباب موارباً لامتصاص الاندفاع الصيني الحاد والطامح على نحو متحكم في مناسيبه غربياً، وبما يقلص عوز (بكين) إلى التشبيك مع (إيران) بفعل سياسة (العزل الحضاري الغربي) لها كتهديد شرقي أصفر صاعد بقوة.
على أن كل هذه السيناريوهات والتوجهات الغربية التي تحاول أمريكا أن تبدو من خلالها كصانع ألعاب محوري فاعل يعيد رسم الخارطة وفق مشيئته، لا يمكن لها أن تحجب حقيقة كونها ردات فعل لانحسار النفوذ الامبراطوري الغربي المتسارع على خلفية انتصارات محور المقاومة وتداعي البنية الوظيفية الخليجية الوكيلة للغرب تحت ضربات يمن 21 أيلول وصمودها الفذ، وانتقالها، بعد 4 أعوام على عدوان التحالف، من طور الدفاع المقتدر إلى طور الرد المقتدر، وصولاً إلى توازن الردع الذي ليس من المفيد لأمريكا معه أن تبدد المزيد من الوقت في الرهان على التحالف العاثر، فتفيق على انتقال الاشتباك إلى طور تفوق الردع لجهة اليمن.

 
 

أترك تعليقاً

التعليقات