رئيس التحرير - صلاح الدكاك

صلاح الدكاك / لا ميديا

أطل المبعوث الأممي مارتن غريفيتث من شاشة قناة "الحرة"، الخميس الفائت، مؤكداً "عدم إمكانية انعقاد جولة المشاورات اليمنية وفق الموعد الذي كان مقرراً لها!.."، أي خلال نوفمبر الراهن. غير أنه استدرك قائلاً: "نعمل على أن يجري انعقادها قبل نهاية العام الجاري".
اضطراب أجندة الأمم المتحدة ومبعوثها حيال ملف الحرب والمشاورات في اليمن، يعكس اضطراب وتململ أجندة الإدارة الأمريكية التي تريد حرباً وسلاماً يفضيان في الحد الأدنى إلى توسيد اليمن لمنشار التمزيق والكنتنة الطائفية والمناطقية، في مأمن من هبوب رياح الممانعة والرفض.. وهو ما يعجز تحالفها منذ 4 أعوام في تمريره بالخناق والعناق معاً.
لم يباعد غريفيتث زمنياً بين موعدي التشاور السياسي العاثر والمأمول المضروبين لانعقاد الجولة الافتراضية القادمة، ولم يورد مسوِّغات واضحة ومقنعة لقرار تأجيل جولة نوفمبر الراهن، إلى ديسمبر المقبل، الذي عبَّر عنه بـ(نهاية العام)..
ما الذي يمكن أن يتغير - إذن - في حسابات الحرب والسلام خلال الزمن الوجيز للغاية بين الموعدين؟! لا شيء - بطبيعة الحال - سوى استنفاد مهلة الـ30 يوماً التي منحها وزير الدفاع الأمريكي للتحالف لانتزاع متغيِّر ميداني نوعي يمكن الاتكاء عليه في الدفع بسيناريو تقسيم اليمن عبر طاولة المشاورات كأمر واقع لا حيلة للمفاوض الوطني إلا القبول به، وفقاً للتقديرات الأمريكية، التي ضبط غريفيتث ساعته الأممية عليها، فأرجأ موعد السلام الأكذوبة إلى زمن غير بعيد، بانتظار ما ستقرره "الحرب" باعتبارها حقيقة الحقائق.
في الوقت الذي كانت واشنطن خلاله تُطَيِّر حمائم بيضاء في الهواء الطلق كـ"بابا نويل"، كانت في العتمة تسنُّ وتشحذ نيوبها كـ"دراكيولا" لتنهش المزيد من لحم أطفال ونساء وعمال وفلاحي ومدنيي اليمن..
"انتليجينس أونلاين" الإلكتروني الفرنسي، كشف، أمس الأول، معلومات مفادها أن "واشنطن" منحت التحالف إذناً بـ"الهجوم على الحديدة"، وزوَّدته بـ"طائرتي استطلاع ومراقبة" كوقود نوعي إضافي لهجوم عسكري هو الأكبر بين سلسلة هجومات التحالف وزحوفاته على الساحل الغربي والمستمرة منذ ما يزيد على "36 شهراً"، وكسابقيه تنبئ مجريات أسبوع من الاشتباك بأن مآله الفشل، وأن الحديدة كوجهة وهدف استراتيجي لمهندسي الاحتلال، لا تزال بعيدة المنال، ودون بحرها 7 أبحر من بسالة الصمود وسخاء التضحية والبذل و.. خيارات الرد والردع المفتوحة على نقل عويل المرتزقة والأدوات التنفيذية إلى مخادع المدير التنفيذي الأمريكي وحناجر صنَّاع القرار العالمي.
خسارة الحديدة بالنسبة إلينا غير واردة بالمعنى الجيوسياسي الذي يتوخاه العدو، فالمعارك التي تدور رحاها على مشارف المدينة، وسط كثبان وواحات وقيعان رملية شاسعة، ويتكبد فيها التحالف آلافاً مؤلفة من الخسائر في عديده وعتاده، لن يغير في موازين الاشتباك شيئاً انتقالها إلى العمق العمراني للمدينة، عدا ارتفاع أكلافها على الجانب الإنساني المثخن بأكلاف الحصار وحرب التجويع التي يشنها التحالف على اليمن وشعبه منذ 4 أعوام..
من جهة موازية، فإن التحالف لن يظفر بمسرح اشتباك مواتٍ لجهة طبيعة تشكيلاته العسكرية وإمكانات توظيف مزايا التفوق الحربي لديه، الأمر الذي سيجعله أكثر عرضة للتنكيل والنزف، وأبعد عن تحقيق مبتغاه السياسي بتقدمه الجغرافي...
إن الصمود والمواجهة بالنسبة إلى جيشنا ولجاننا وشرفاء شعبنا، ليس محصوراً في معركة كسقف أعلى لا مواجهة ولا صمود بعدها فيما لو خسرناها، بل هو صمود ومواجهة ورفض واستبسال بلا سقف زمني ولا تخوم مكانية ولا ضفاف يعقبها الرضوخ والاستسلام لمشروع العدوان...
إن كفاءة جيشنا ولجاننا في إدارة الاشتباك على مسرح ساحلي مواتٍ للعدو بحساب الإمكانات المادية والتفوق الحربي التقني، هي كفاءة ناجمة عن عقيدة إيمانية ثورية قيمية لا يبحث معها أصحابها عن بيئات جغرافية مثلى للمعركة فحسب، وإنما يتحرون فوق ذلك دفع الضرر ما أمكن عن الحواضن الشعبية، وتقليص الأكلاف الإنسانية المترتبة عليها بفعل الاشتباك، لذا فإنهم يستميتون في الإبقاء على رحى المواجهة ضمن جغرافيا شحيحة العمران مهما كانت أكلافها عليهم.
في المقابل، فإن تحالف العدوان يسعى بقصدية نازية، وكهدف رئيس، إلى إثخان البنية السكانية والعمرانية للحديدة بالخسائر والآلام وزعزعة استقرارها بغية الضغط على القيادة الثورية وإجهاض تماسك حواضنها الشعبية، وتجييشها ضدها تحت وطأة اليأس والجنوح إلى تلافي أكلاف الصمود عبر التسليم للعدو..
إزاء هذا المسعى العدواني غير العابئ بقيم وأخلاق الاشتباك، فإن وجهة الرد ستنحو صوب ما يعبأ به العدو ويتألم له العالم المنافق، وبما يحول بين التحالف وبين مسعاه الفاضح لاحتلال الحديدة بأي ثمن، كما تشير مجريات الاشتباك اليوم.
إن احتلال الحديدة هو ما سيقرر في حسابات أمريكا مستقبل الخارطة اليمنية، في حين أن اضطرار أمريكا إلى وقف الحرب قبل بلوغ هذا الهدف الاستراتيجي، يعني أن تتغير خارطة الإقليم والمنطقة بلا رجعة، وعلى نقيض ما تشتهيه سفن الغزاة ومصالح الامبريالية الغربية، وأن تُسلِّم أمريكا بذلك كأمر واقع، وهو مصير وشيك تحاول "واشنطن بمعاونة لندن" أن تمنع حدوثه ما أمكن عبر ضمان ظروف مواتية لاستمرار العدوان.
تبعاً لهذه المقاربة، فإن من السذاجة الاعتقاد بأن جولة مشاورات أو سلسلة جولات تجمع المفاوض الوطني بقفازات وجوارب الاحتلال، يمكن لها أن تفضي إلى تسوية سياسية على مصاف اليمن، تستوعب المتغيِّر الثوري وثوابته الوطنية والقومية والإسلامية ومكتسبات القوة الشعبية والحربية الفارقة التي راكمتها الثورة في غضون نصف عقد من المواجهة مع قوى الامبريالية والاستكبار العالمي.
عندما شرع التحالف الكوني الامبريالي في عدوانه على اليمن في مارس 2015م، لم تكن "المملكة السعودية والإمارات بعواصمها ومنشآتها الاقتصادية والعسكرية" تحت طائلة قدراتنا الحربية الصاروخية والجوية، ولا في متناول مدياتها، وكانت قوتنا البحرية عاجزة بوضعها الموروث، عن أن تذود سفن القرصنة والاصطياد الجائر عن مناجم ثرواتنا المائية، عوضاً عن أن تحلم في اصطياد بارجات ومدمرات "قراصنة اليانكي والمارينز" وسفن إبرارهم البحري، أو أن تنفذ عمليات نوعية في عمق البحر. لكن هذا كله تغير في غضون 4 أعوام، وباتت حتى دولة الكيان الصهيوني في أقاصي شرق المتوسط موعودة بمنخفض جوي باليستي يمني.
كانت أمريكا - في واقع الحال، تدرك من قبل ومن بعد هذه التحولات النوعية، أن جوهر الخطر يكمن في المشروع الثوري الإيماني المعرفي الأنصاري الكفيل بأن يصنع كل هذه التحولات وأكثر منها من صفر الواقع المادي المنظور إذا لم تسارع إلى وأده في مهد انبثاقه، وما دامت قد فشلت في وأده، وشبَّ على طوق الوصاية والهيمنة، وبلغ هذا المدى من التحليق المقتدر إقليمياً في عمق محميات نفوذها الجيوسياسي الخليجي، فإن أثمان التفاوض الجِدِّي معه ينبغي أن تضاهي مديات صواريخه وطائراته المسيَّرة، الأمر الذي يجعل من جولات المشاورات ـ فيما لو انعقدت ـ أشبه بملاذ أمريكي لالتقاط الأنفاس وسط عجز واشنطن المُركَّب عن الاستمرار في العدوان دون حساب لتداعياته الوخيمة عليها، كما وعن الرضوخ لتسوية سياسية بأثمان وخيمة مسحوبة من رصيدها الوجودي الجاف والآيل للنفاد!
إن جولات العناق العلني الصهيوني الخليجي ليست بعيدة عن صلب هذه الحلقة الأمريكية المفرغة من إمكانات الفعل، والمحفوفة بمؤشرات الأفول على خارطة شرق أوسطية تمثل يمن أيلول حجر الزاوية في خضم تحولاتها.
ليست ـ إذن ـ محاولات غريفيتث تارةً لعقد المشاورات وتاراتٍ لتغيير مواعيدها إلا معادلاً موضوعياً للحاجة الأممية إلى إرجاء غرق الفرعون الأمريكي الذي بات على شفا البحر الرهو، حيث يُعمِّق مجاهدونا قاع نهايته السحيق.

أترك تعليقاً

التعليقات