الرحيل قبل الأوان
 

طاهر علوان

طاهر الزريقي / لا ميديا -

في يوم حزين مطموس الملامح، رحل فجأة الكاتب المبدع عبدالرقيب المجيدي، بعد أن داهمه المرض اللعين، بل تحالف الأمراض، وأعجزه عن الحركة، وهو الذي عاش لا يكف عن الحركة واللقاءات والحوارات، ولا يمل من حمل الهموم الثقافية والفنية والبحث عن حلول لها، رحل فجأة غادرنا بصمت فاجع، وكم حياة غنية اعترضها موت عبثي يثقل القلب بالأحزان، رحل لحناً لم يكتمل بأمراض قاتلة تغزو بلادنا وتنهش من بين ما تنهش واحداً من أروع وأعز وأجمل الأبناء وأكثرهم موهبة وأوفرهم صوتاً وامتلاء بالوعود، رحل المثقف القابض على مبادئه كالقابض على الجمر في هذا الزمن الرديء والغدار، رحل المناضل الجسور الذي أثرى حياتنا الثقافية والفنية وخلق روابط حقيقية وحميمية بين الجزر المبعثرة، وأضاء المشترك والمختلف في حياتنا السياسية تماماً كبحثه الدائم عن مجتمع إنساني دونما أسوار، وكان النموذج الصادق للمثقف الذي يصوم الدهر إذا فرضت لقمته من عدوه، ويكفر بالمعاني إن كان غير القلب منبعها، لم يتقبل كقدر حقيقة العدوان، والكذب الساسي، والفساد، واستبدال الأسماء وتزوير الأدوار والخداع، رحل بثقافته المملوءة بمحبة الإنسان، الكاشفة عن كنوز الثقافة، الخالية من التزوير والغش والمهانة، الخالية من التشوهات، لتكون هي أداة الجماهير لتغيير واقعها البائس .
وبناء عالم حر جميل وإدراك الوضع الحقيقي الذي وضعوا فيه، وتصعيد القراءة إلى مستوى الحوار العقلي لتحقيق أهداف الكتابة، كان يدرك تماماً دوافع الكتابة لا على انها تقديم خدمات ترفيهية، الكتابة عنده عمل عقلي وجهد فكري شاق من أجل طرح الأسئلة وإقلاق الراحة الكاذبة عند القراء.
كان منبعاً من منابع الأمل والصمود والمقاومة، يقاتل كل سلطة تحاول ذبح كل قلم شريف أو مؤامرات الصمت والتجاهل التي تضرب حول هذا الكاتب أو ذاك، وحتى آخر لحظات حياته كان حزيناً تحاصره الذكريات المؤلمة وتسرق أغاني الحزن ملامحه، يرتجف حين تعاوده تلك الأحداث ويرى أطفالاً قطعتهم شظايا القنابل العنقودية وقصف العدوان، وأيدي وجماجم مبعثرة في الطرقات، هذه آخر ذكرياته من مدينة العشق والصمود كان يتشبث بتلك المدينة، وهي أيضاً تتشبث به إنه عشق أزلي.
رحل فجأة، تاركاً لنا قيمة العطاء بلا حدود ولا ضجيج ولا ثمن، رحل بدون مقدمات، وأعلن عن موته بشموخ وكبرياء، أعلن عن رحيله في غفلة من هذا الزمن، وبهدوء كعادته المستحبة غافلنا وحمل رفضه ورحل، هذه دماؤك نفحة شريدة بلا ضفاف، أردت أن تغني لتنسى حياة من الزيف حقيقة، وتذكر حياة من الحقيقة زيفاً، نرثيك بل نرثي زمناً يتيماً لأبناء مقهورين، تستبد بي الأحزان وأنا وحيد كإلهة طاغية، تعربد العواصف الثائرة ملء ضلوعي المهشمة، وكأنما الرعود والعدوان، والفئات الضالة ككلاب مجنونة تهرول في سراديب المساء شامتة ساخرة كالبغايا تطلق الضحكات المسعورة، والظلمة عباءة مسمومة تلتف على جسدي، وعيوننا تراقب الحفار، والليل موقوف محيط بلا حراك يلف الزمان والمكان بظلام وحشي، ونعود بمصابيح شاحبه وحزن طيب، ولأننا نحب الحياة، ونحب الأرض نتعلق بها أكثر، نغني ونعشق، وننجب الأطفال، وبين الحياة والموت وبين الحياة والحياة نمارس رغباتنا، وأحلامنا، وموتنا المؤجل، نتغزل نكتب الشعر، في الوقت الذي نكتب فيه وصيتنا، لا نأسف وإن كنا أكثر حزناً لأن أكبر الخسارات أن ترى قلبك وهو ينطفئ والوطن بعيد.

أترك تعليقاً

التعليقات