سنوات من الموت والنسيان
 

طاهر علوان

طاهر  الزريقي / لا ميديا -

في عام 1984 غيب الموت المفكر والناقد فؤاد علي عبد العزيز الزريقي. سنوات عجاف تفصل بيننا وبين هذه اللحظة. سنوات من التجاهل التام والتنكر والتواطؤ على تمرير حالة من النسيان راح ضحيتها اسم فؤاد علي عبد العزيز، وكأن الرجل الذي ملأ الأسماع والأبصار لم يكن شيئاً مذكوراً، وكأن الذين كانوا يسعون إليه من الرفاق لم يعرفوه يوماً لدرجة تجعلهم يتذكرونه في جملة عابرة، بالرغم من أن فعل الموت يخلق استعداداً للإنصاف في عقول الأصدقاء والأعداء، وهذا الإنصاف وثيق الصلة بالعلاقة الأخلاقية، ولكن هناك من لا يستطيع حتى الموت إطفاء أحقادهم، بل يفتح لهم باباً واسعاً تنطلق منه شهوة الانتقام، وهؤلاء لا يتورعون عن نبش القبور وأكل أكباد الموتى، فقد تدربوا على التهام حيوات الأحياء بنهم لا تخمد جذوته، ومن حسن حظ جميع المجتمعات أن هؤلاء قلة قليلة في كل زمان ومكان، ولا يجدون مكانتهم تحت السماء الصافية. 
كان فؤاد من الملتزمين بالقضية الاجتماعية التي يضعونها داخل روح العصر. والعصرية عنده لم تكن ضرباً من الترف، بل واجباً نضالياً داخل التنظيم الذي اختاره لنفسه ليرتبط به ويصعد إلى سماء الوطن مع تجاربه وانتصاراته وهزائمه وخيباته، حسب قول الدكتور أبو بكر السقاف. 
حالة التغييب تدل على مرض عضال في حياتنا الثقافية والسياسية الراهنة. لقد كان المثقفون الجادون حتى وقت قريب هم الوقود الذي لا ينفد لمقاومة سلبيات الواقع، لأنهم كانوا يحلمون دائماً بواقع آخر ممكن أكثر عدلاً وجمالاً، وها هي شريحة منهم تتنازل عن الأحلام وترى في الواقع القائم في ظل العدوان، أياً كانت همجيته وعدوانه ومرارته وظلمه، الواقع الممكن الوحيد والذي من خلاله سوف تتحقق الشرعية، والعدالة، والأمن، والاستقرار، وتدعو إلى "الواقعية" في التعامل مع المعطيات الجديدة، (وإن شئنا الدقة فهي الاستسلام لهذه المعطيات وفقاً لمصالحهم الذاتية) وترى في ذلك تطوراً نحو النضج، ويا له من نضج يشبه حالة الامتداد للطفولة العاجزة عن التأثير في الواقع، والتفاعل معه على نحو خلاق، أم لعله نضج الشيخوخة التي لم يعد أمامها إلا أن تقبل العجز عن الفعل أو حتى الحلم.
 وعندما يصل توغل العجز إلى كل جزء من حياة العاجزين، وبكل ما يترتب عليه من انحطاط، يصبح التبخيس، والهوان، والنذالة، والعمالة، أموراً غير مستفزة، وتكون حياة العاجزين قد وصلت إلى درجة الصفر، التي هي مستوى الاستقرار في التفاهة والهامشية. الواقعية التي يدعون إليها هي الواقعية التي تنادي في أغلفة نظرية وفلسفية إلى الإخفاق والاستسلام، بشروط الواقع وبالتعايش مع معطيات واقع العدوان ومشروعه. نزعة عملية تخفي في أعماقها انتهازية تسعى إلى استغلال الفرص للطفو فوق أمواج التيار السائد. تلك هي الأزمة الحقيقية التي تضرب بجذورها اليوم لتبريراتهم التي يسوقونها لأنفسهم للاستسلام والإذعان. لقد أصبحوا مجرد أدوات لقوى لا تريد لهذا الوطن المعتدى عليه الخير والسلام، وأن يعبر أزمته، عدوان جعل بعض المثقفين جزءاً من هذه الأزمة بتخليهم عن دورهم القديم في النضال ضد الظلم والطغيان والذل، واكتفوا بأن يمضوا مع التيار السائد والمصلحة الذاتية.
الشكر والتقدير لصحيفة "لا" ورئيس تحريرها، الرفيق الوفي والصديق العزيز صلاح الدكاك، لقراره نشر مجموعة الدراسات والمقالات التي كتبها الراحل فؤاد علي عبد العزيز الزريقي. 

أترك تعليقاً

التعليقات