كارلوس شهاب

كارلوس شهاب -

لكي يوضع صراع المماليك والعثمانيين في سياقه التاريخي الأقرب للدقة لا بد من العودة إلى عدة محطات تاريخية لإيضاح أصول هذا الصراع.
الفترة الأولى تبدأ مع محمد الثاني (الفاتح) الذي يعتبر المؤسس الفعلي للإمبراطورية، فبعد استيلائه على القسطنطينية عام 1453 بعد حصار طويل في معركة أقرب للمعارك الحديثة وقتها (بحسب يلماز أوزتونا، أضاء المماليك القاهرة لمدة 3 أيام ابتهاجا بهذا النصر) شرع في دعم أركان حكمه، فتقدم نحو المورة لدعم حليفه ديمتري باليولوغ في حملتين عسكريتين (1458 و1460) ضد البندقية، ثم التوغل في البوسنة والهرسك في عام 1463 أيضاً ضد البندقية، ثم في العام 1468 بالسيطرة على إمارة قرامان جنوبي الأناضول (خريطة رقم 1). هذه الإمارة لم تكن لقمة سائغة للعثماني، فمنذ البداية لم يستطع العثمانيون السيطرة على القبائل التركمانية فيها. وفي العام 1471 ظهر أوزون (أو قوصون) حسن، زعيم آق قوينلو، والذي يسيطر على شرق الأناضول وإيران (خريطة رقم 2)، مطالبا بعرش إمارة قرامان. ولكي يضمن "حسن" هذه الإمارة عقد اتفاقاً مع البندقية ينص على أن يسيطر على الأناضول بأكمله من دون أن يبني قلاعاً على المضائق أو قرب الشواطئ التي تمر بها سفن البندقية، وكذلك سيطرة البندقية على: مورة Morea، ليسبوس Lesbos، أيوبا Euboea، وأرغوس Argos. نجح حسن بطرد العثمانيين من إمارة قرامان بعملية مشتركة مع البندقية، حيث قامت سفن البندقية بإنزال على شواطئ الإمارة، وتوجه إلى بورصة نفسها، لكن محمد أوقف تقدم حسن ثم هزمه في موقعة باشكانت عام 1473 وسُحق جيش حسن ثم حوصر البنادقة في شكودرا، وانتهى هذا الصراع عام 1478 بتوقيع اتفاقية صلح تضمن انسحاباً من المناطق التي احتلتها مع دفع ضريبة سنوية قدرها 10000 دوقية ذهبية لإسطنبول مقابل حرية التجارة للبندقية مع المرافئ العثمانية. كان المماليك في مصر منزعجين من سيطرة العثمانيين على إمارة قرامان التي تقع شمال مرافئهم، وكذلك كانت تابعة لسيادتهم هي وإمارة أوزون حسن، التي أنهاها محمد الفاتح، وسيترتب على رفض هذه السيطرة أن يدخلوا في صراعات الأناضول.
الفترة الثانية تبدأ بعد موت محمد الثاني (الفاتح) عام 1481، إذ يندلع نزاع عنيف تشارك فيه الإنكشارية ضد السياسة العامة لإدارة محمد الفاتح. فلتنفيذ حروبه الكبرى أرهق الفاتح مؤسسة الإنكشارية بحروب متواصلة تمتد حتى فترة الشتاء. ولتمويل هذه الحروب رفع رسوم الجمارك والضرائب المفروضة على الفلاحين، وخفض قيمة العملة الفضية عدة مرات، كما وقام بتحويل أكثر من 20 قرية ومزرعة كانت ضمن نطاق الأوقاف وأملاك العائلات العريقة إلى رقابة الدولة ووزعها على أصحاب التيمارات (نخبة الدولة العسكرية والإدارية). تسببت هذه السياسات بسخط واسع بين العلماء والمشايخ والعائلات العريقة الذين تحلقوا حول بايزيد، ابن محمد الثاني، كونهم رأوا فيه إمكانية إلغاء سياسات والده، في حين تحلق المعارضون للإلغاء بصف جِم، شقيق بايزيد، ودارت حرب أهلية بين الشقيقين، حسمها "معبود الانكشارية" كديك أحمد باشا لصالح بايزيد عام 1481، وطُرد جِم الذي وجد منفاه في مصر، وألغى بايزيد كافة سياسات والده وأعاد الأراضي للأوقاف وسحبها من أصحاب التيمارات، كما أنه رفض التوسع بالحروب، مما أثار معارضة كديك أحمد باشا. هذه المعارضة تسببت بمقتل الأخير عبر مكيدة دبرها بايزيد.
عام 1482 عاد جِم إلى إسطنبول بمعونة المماليك، وتفجرت حرب أهلية ثانية استطاع بايزيد الانتصار فيها مرة أخرى، وطرد أخاه إلى إمارة رودس. أشعل دخول جم بالمعونة المملوكية العداء المملوكي العثماني المضمر من السيطرة على إمارة قرامان، فقاد بايزيد 6 حملات كبرى ضد سلطان مصر والشام المملوكي وإمارة ذي القدر، التي تمثل خط دفاع عن الأراضي المملوكية وتتبع لسيادتها. لكن هذه لم يسفر عنها شيء، وأثبتت عدم جدواها، فعقد الطرفان صلحاً تعود فيه الأوضاع إلى ما كانت عليه.
الفترة الثالثة تبدأ من نهايات حكم بايزيد واشتعال تمرد القزلباش في الأناضول. القاعدة الشعبية لهذا كانت من القبائل التركمانية التي تستوطن إمارة أق قوينلو، شرق الأناضول، تحت قيادة أوزون حسن. وبعد أن فتك بهم محمد الثاني (الفاتح) عام 1473، حاول بايزيد تسجيلهم في الدفتر العثماني لكي يدفعوا الضرائب للدولة مقابل استيطانهم في الأرض. رفضت هذه القبائل إجراءات بايزيد، وبايعت في هذا الوقت الشاه إسماعيل الصفوي، الذي بدأ يأخذ مكان أوزون حسن كمعارض للعثمانيين. وفي العام 1511 أشعل القزلباش تمردا بقيادة السپاهية (أصحاب التيمارات الذين جردهم بايزيد من امتيازاتهم). أحرقت هذه الانتفاضة كل ما في طريقها نحو بورصة، فقام سليم (العابس) بعزل والده وإعلان نفسه سلطانا. سليم هو شخصية دموية، ولكن دمويته كانت في سياقها، فهو لا يختلف عن الأمير أوليغ الذي بطش بإخوته، ولا يختلف عن الملك شارل التاسع الفرنسي الذي ذبح ما يقارب 20 ألف بروتستانتي عام 1572 في مذبحة سان بارتيليمي. في كل دولة سلالية ستجد شخصية مشابهة لسليم العابس، وليس من المنطقي أن تُحاكم هذه الشخصيات بمحاكمات اليوم. بطش سليم بإخوته الذين ينافسونه على العرش، ثم تبعها بسجن وذبح 40 ألفاً من قادة وأتباع تمرد القزلباش. توجه بعدها لموقعة جالديران 1514 التي استطاع فيها تحجيم الصفويين في الشرق.
كانت من بين الإمارات الداعمة للتمرد القزلباشي إمارة ذي القدر التركمانية "دولكادر أوغلو" (خريطة رقم 3) والتي كانت تتبع اسمياً السلطان قانصوه الغوري المملوكي. توجه سليم بعد جالديران إلى هذه الإمارة، وكان الصدام المملوكي العثماني حتمياً بعد سيطرة سليم على هذه الإمارة. تتابعت أحداث هذا الصدام وصولا لإعدام طومان باي وتعيين خايير بك المملوكي واليا على مصر. تجدر هنا الإشارة إلى أن المماليك طلبوا مساعدة العثمانيين لمواجهة البرتغاليين، كما أن شريف مكة أرسل وفدا يحث السلطان سليم على التدخل، وكان شائعاً بين الحكام المحليين -مثل شريف مكة- أن تقدم سليم يأتي فقط بالضد من المماليك، وبالتالي أيدته واعترفت به، حتى أن سليم لم يواجه مقاومة أثناء عبوره سيناء، نظرا للأمان الذي أعطاه.


*  كاتب وباحث عراقي.

أترك تعليقاً

التعليقات