إعجاز
 

محمد التعزي

محمد التعزي / لا ميديا -
تتعدد أساليب الخطاب في القرآن الكريم كمظهر من مظاهر الإعجاز الذي تحدى الله فصحاء العرب أن يأتوا بسورة من مثله. والتاريخ يقفنا على أن العرب أمة سامية، والسامية في بعض معطياتها أمة جدل تؤمن بالمحسوس المادي وتعليه على المجرد المعنوي، فكفار قريش ككفار ويهود أنكروا أن يكون هناك نبي يأتيه وحي السماء الذي يؤكد البعث والنشور بعد الموت من ناحية، إذ يكرر المسلم ذكر «الدين» الذي هو يوم القيامة أكثر من مرة في صلاته {مالك يوم الدين}، ومن ناحية أخرى يذم القرآن هؤلاء الكفار المعاجزين الأنبياء الذين يطلب إليهم هؤلاء الكفار أن يأتوا بآيات مادية ظاهرة ليصدقوا أن النبوة وحي من السماء {وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا}.
ويقدم القرآن الكريم صورة من هذا التعجيز الذي يبلغ قمة اللجاجة بما يشترطه هؤلاء الكفار على نبيهم أو أنبيائهم ليصور مدى هذه المادية/ الضلالة حين تعوزهم آيات بينات تؤكد صدق النبوة ووضوح الرسالة {وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعاً، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيراً، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ  قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَراً رَّسُولاً} (الإسراء، 90-93).
إن هذا الخطاب يتعدد إيقاعاً ومعطى في خطاب آخر لا يشبهه كلام الإنس ولا كلام الجن. يقول تعالى مبيناً هذا الجدل المكابر: {ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين} (الأنعام، 7).
ويستمر الجدل الخصام: {وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون} (الأنعام، 9-10)، أي أنه لو نزل عليهم ملك لقالوا لو كان رجلاً لفهمناه ولكن هذا الملاك جاء من عالم آخر. وقد تكون في آيات الكون الواضحة كفاية لتدل على هذا الإله الواحد: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين}. إن هذا الخطاب يأتي على سبيل التفكر في قدرة الله على الخلق البديع الذي ليس على شاكلة سابقة، ويأتي خطاب آخر على تعبير بالصورة الإقناعية تختلف بإيقاعها ومعطاها عن الصورة السابقة: {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه، قال من يحيي العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم، الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون، أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم، بلى وهو الخلاق العليم} (يس، 77).
وليس يقف تعدد الخطاب في القرآن العظيم عند هذا الحد؛ ولكن من باب الفائدة نقف عند أسلوب أخير هو ما يسميه أهل البلاغة «أسلوب اللف والنشر» أو أسلوب «الطي والنشر»  القبض والنشر،
ومن أساليب القرآن ما يطلق عليه البلاغيون «اللف والنشر»، «الطي والنشر»، «التفصيل بعد الإجمال»، ومثال ذلك قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ، لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ، لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}، وكمثل قوله: {إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيّاً}، وقوله تعالى: { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيّاً، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً، فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيّاً، يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً}.
فهذا أسلوب النشر بعد اللف، من أساليب القول البلاغي عند العرب، يراد به التوكيد لحدث ما، زيادة في الإيضاح والإفهام، إما لخطورة الحدث ذاته وإما لمزيد من إفهام المتلقي في طور بداية يمر بها. وقد اشتهر الساميون كالعبرانيين والأحباش واليمنيين بأنهم في طور الإفهام عن طريق المحسوس ضمن حواسهم الخمس، وزاد آخرون حاستين اثنتين هما حاسة «الثقل» وحاسة «المسافة». أما حاسة «الثقل» فكأنَّ أحدهم يطلب إليك حمل سيارة أو تحمل على ظهرك موتسيكل، فبمجرد أن يقول لك ذلك تتحرك معتذراً إليه عدم استطاعتك. وهكذا حاسة «المسافة» كأن يطلب إليك أن تغادر الساعة الثامنة صنعاء إلى مدينة البيضاء لتعود إلى صنعاء تمام العاشرة صباحاً، فتعتذر لأنه لا طاقة لك أن تفعل ذلك.
إن أساليب القرآن الكريم تهدف جميعها للإقناع وإقامة الحجة، إزالة لما يلتبس من انحراف ولو بسيط في ميزان العدالة المطلقة: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}، وقوله: {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ، وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، أي فهلاكاً.
إن كلاً من أسلوبي «الطي والنشر» و«المحاجة» أو الإقناع المنطقي وغير ذلك من الأساليب القرآنية تؤكد ما اتصف به القرآن الكريم من الإعجاز المبين لتقام الحجة على:
1 - أن هذا القرآن من عند الله، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً.
2 - أن القرآن دين عدل واستقامة حق.

أترك تعليقاً

التعليقات