انفصال
 

محمد التعزي

محمد التعزي / لا ميديا -
«بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان» عبارة قرآنية كريمة تستوحش من هذا الاسم أو الصفة (الفسوق)، والذي سبقه الإيمان ثم كفر، فالمفترض أن يعقب الإيمان إيمان يضاف إلى الإيمان السابق ليزداد متانة وقوة، أما أن يعقب الإيمان كفر وفسوق فهي بئس الصفة.
كأن الإنسان المؤمن الحقيقي هو الذي تخالط بشاشة إيمانه قلباً يزداد منعة من الباطل والسير خلفاً إلى الوراء، بل ينبغي أن يحرص على أن يلتبس بالتقوى وما يؤهله ليكون قريباً من رحمة الله متعرضاً لنفحاته التي تهب بين وقت وآخر: "ألا إن لله في أيام دهركم لنفحات فتعرضوا لها".
إن هذه العبارة القرآنية الكريمة لتحفز المؤمن أن يرقى مراقي الكمال وأن يحرص على أن يسمو في كل دقيقة وثانية سماوات تصاعدية مصاعد الفيوضات الرحمانية العلوية الملكوتية ليتحرر من أوشاب التقهقر والعجز والانكفاء، فما أبأس أن يصعد الإنسان المؤمن إلى النازل! وقد اعتبر البلاغيون مثال: "صعد إلى الوراء"، ما يدلل به على "المفارقة" البلاغية التي تحدث "هزة" تأمل تلفت المتلقي إلى نوع عجيب من التعبير. وقد ضرب هذا المثل الشاعر اليمني الكبير لطفي جعفر أمان في قصيدته التي انطلق بها مع الفنان الكبير محمد مرشد ناجي، والعبارة هي: "اقفزي من قمة الطود لأعلى الشهب"، فالمفارقة البلاغية تأتي من أن القفز لا يكون لأعلى، وإنما يكون لأسفل.
حكى لي مسافر من صنعاء إلى تعز قصة تدمي القلب وتترك اليمني نهبا لشجون مزعجة وشؤون قاهرة مقلقة، وما حكاه هو الفسوق بعد الإيمان الذي سوف نتحدث عنه في هذه الرحلة "الرعب"!
سعد كل عين من ذكر وأنثى، شاب وشيبة، بهذا الحدث الأكثر خطورة وعظمة، وأشرق نوراً وبهاءً: الوحدة اليمنية، التي أينعت شجرتها بسيل من دماء كريمة بذلها اليمنيون من حر أوردتهم المعطاء.
فقد بكت الأشجار والأحجار والبهائم والزواحف والحشرات والطير... حين ارتفع علم الوحدة ذات يوم من أيام أيار/ مايو المجيد، ليجتمع شمل اليمنيين من جديد بعد عقود من القطيعة بين الحكام، الذين اتخذوا من الوحدة شعاراً لمآربهم الرخيصة ومصالحهم الدنيا ورددوا شعارات جديدة وبالية للسيطرة على دولارات اليمن وريالاتها وأقاموا شبكة علاقة "مصلحية" امتدت من صعدة شمالاً حتى شبوة جنوباً ومن المكلا شرقاً حتى تعز جنوباً ...الخ.
وبالرغم من كل ذلك، تواصلت الأرحام، وتداول اليمنيون مصالح تقتضيها المنافع الخاصة والعامة، تلك المصالح التي يفرضها "التعالق" المنفعي بين الإخوة في كل زمان ومكان.
قال صاحبي: انطلق "البيجو" تمام السادسة صباحاً استعداداً لرحلة تربط بين صنعاء العاصمة وتعز الحالمة، بعد أن تزود الراكب بزاد المسافر، وكأنه في رحلة للحاق بالبيت الحرام، ذلك ومن خلال التجربة أن الإنسان يمكن أن يصل الرياض قبل أن يصل إلى تعز. وصلنا منطقة الحوبان – تعز، فارتحنا بعض الوقت ثم انطلقنا نحو المعلوم/ المجهول: "طريق الأقروض" الذي يربط تعز بتعز!
في منطقة الأقروض بعض شباب يقوم بالتمرين على البلطجة: بطاقتك، تلفونك، عفشك...! اتفضل انزل، تفتيش... أنت يمني؟ من فين؟ متى التحقت بالمليشيا؟! ... الخ... الخ، ويحاول هذا البلطجي تحت التمرين أن يطلع على مفردات الهاتف:
- وهذه من؟!
- زوجتي.
- ما اسمك يا حجة؟!... كم لكم متزوجون؟ من شيخكم؟ ما اسم القائد؟!...
والمسألة "زايد ناقص"، ولمن لا يفهم الموضوع "يشرّف" إلى الزنزانة، مكان الحجز، ليستنجد المسافر بأهله الذين قد يلاقون من السفر من قراهم إلى الأقروض حرضاً شديداً، ومشقة بائسة يائسة، ويصل تعز التاسعة أو العاشرة مساءً، بعد رحلة افتتحت بالصباح وأقفلت بالليل، ولا تنتهي المسألة هنا وحسب، ولكن بهذا التواصل بين بلطجي وآخر، والذي يتجدد السؤال له بحسب مظهره وهل هو "دسم" أو "ناشف"، تكون المعاناة أكبر وأخطر، فالبلطجي (أ) يبلغ زميله في النقطة (ب) بأن هناك صيداً في الباص يخبره باسمه ويقول له إنه مطلوب للعدالة...الخ!
فاجأ أنصار الله أهل اليمن بوجه عام وتعز بوجه خاص بإعلانهم سحب الأنصار من مدخل تعز، بتوجيه من السيد عبدالملك الحوثي
فوجئت الأحزاب السياسية على الخصوص بقرار الأنصار فتح طريق تعز الحوبان، بل ونبه حزب الإصلاح أنصاره وأتباعه إلى أن عليهم توخي الحذر من هذا الإعلان، واعتبروه كميناً وفخاً لمحاولة استدراج حزبهم الذي يحشد أهل تعز لنصرته، وأن الحوثيين بهذا القرار أناس "خدّاعون، مكّارون"، واشتعلت المنابر ومايكروفوناتها في المساجد الكبيرة والصغيرة والأصغر التي هي غرف في الحارات تحذر من هذه الخطوة الحوثية "الغادرة"، وانطلق تحذيرهم هذا من أنه لا يمكن للحوثي أن يقدم على هذه المبادرة بلا ثمن، فهذا مستحيل!
تدفق الهاربون من تعز إلى تعز، ورجع كثير من الهاربين الذين خافوا من قصف التحالف للمدينة، هذه المدينة التي شهدت الأسلحة السعودية والإماراتية تنهمر من السماء، فتهطل على المسبح والضبوعة وميدان الشهداء... الخ!
هذه المدينة سعدت بقرار الأنصار أن تشرع أبوابها ليتحرك أهل تعز بجدية، دخولاً وخروجاً، بل أصبح كثير من أبناء اليمن يذهبون إلى تعز ليروا هذه المدينة الأسطورية البديعة.
يبدو أن اتفاقاً حصل بين الأنصار والإصلاح أن تكون هناك نقاط مشتركة فيما يتعلق بالمدينة في المداخل والمخارج.
قال صديقي التعزي: أول ما تدخل الحوبان باتجاه تعز، يواجهك الأنصار بالتحية، و"ايش تحمل في هذه الحقائب؟"، ملابس وأغراض، تفضل!... ثم تقترب من قصر الرئاسة فيواجهك "المقاومون": لو سمحت أنزل الحقائب، فتش... ويستمر التفتيش قرابة الساعة، وهكذا بفعل الأنصار حين مغادرة تعز إلى صنعاء!
وأحسب أن لدى أنصار الله من المال، وكذلك المسمّين "مقاومة"، ما يمكنهم من شراء أجهزة حديثة لاكتشاف المدافع والصواريخ التي يحملها المسافرون في حقائبهم الغبراء، والتي قد يحشر في بعضها كسرات من الساندويتش والبسكويتات، وأن من السهل على الطرفين أن يكونوا إنسانيين بما فيه الكفاية فيفترضوا أن المسافر من تعز والداخل إليها يمنيون فقراء مساكين لا دخل لهم بالاحتلال الشرقي والغربي
يعلن صاحب الباص، الذي غالباً يحتاج إلى "بريك" صاحي وإشارات ومسّاحات زجاج من المطر وسائق عاقل، يعلن أنه حان الاقتراب من المناطق الفاصلة بين "دولتي" اليمن -غير الميمون- لكي تستبدل النقود القعيطي والصنعاني. دخل صاحب المطعم هو وزوجته طلبا لفطور. سأل المباشر: كم الحساب؟ قال: ثلاثة آلاف ريال. أعطاه النقود. اعتذر صاحب المطعم قائلاً: نريد فلوس الشرعية، هذه ما تمشي في بلادنا!... ضج صديقي بالبكاء. ظن صاحب المطعم أن صديقي ليس عنده فلوس ليدفع ثمن الفطور، قائلاً له: سامحك الله! صحح له الباكي الموقف: يا أخي أنا أبكي من هذه العبارة "... ما تمشي في بلادنا"، أي بلاد هذه التي يشهد صاحب المطعم أنها قد أصبحت بلداناً؟! أهو يمزح؛ هذا الشاب الذي جاء من "الصلو" ليعمل مباشراً "يشقي" على أمه الأرملة وإخوانه الصغار وأخيه المجنون؟!
هل بلغت الوقاحة الفجة أن يمارس حتى المباشرون الانفصال من داخل مطعم صغير. قالت إحدى الشحاذات في باب المطعم، وهي تمد يدها الملونة بالأسود: حتى يا سيدي قعيطي! إذن انفصال ورب محمد! النقود ليست موحدة، هناك قعيطي وهناك صنعاني، صورة بارزة في مدخل تعز للدكتور وأخرى للسيد، ونقطة أمنية لما يسمى بالشرعية وأخرى لما يسمى السيادة، والمواطن حتى إعداد هذه السطور لا يملك "قعيطي" ولا "صنعاني"، بل إنه رأى من تعز أمرا ليس غريباً على هذه المدينة ولا على أهلها، فقراً مخيفاً، حيث العجائز والشباب يمدون أيديهم: يا رب يا كريم! انفصال، نعم، ومثقفون تخلوا عن تعز بعد أن التحق بعضهم بالمال واطرحوا مبادئهم صوب المصلحة الشخصية الحقيرة، وبعض المؤسسات تقاد من خارج تعز بعد أن سرق قادتها الملايين، وشاهد ذلك جامعة تعز ولا تعليق!
انفصال؛ فلا وحدة نقدية ولا أبواب مفتوحة، وبلطجة، كلٌّ يحمل سلاحه على سيكل، وآخر على طقم سماع رصاص ثقيل ومتوسط، وحرب شرسة بين مصالح دنيا ولا حول ولا قوة، إلى حالة حرجة، وهات يا عمليات! ليس ذلك فقط، بل إن أي عملية قد تكلف أرقاماً لا يملكها المريض، وقد أصابت عدوى الكشافات اليمنيين، ولهؤلاء الأطباء كشافات خارج العيادة أو داخلها... فالطبيب وهو ينوي أن يكون غنياً في أقرب أجل يتلمس ما يجلب له المال بأكثر من أداة أو وسيلة، فهو يملك كشافة ويملك صيدلية ويملك مختبرات ويملك سيارات أو باصات إسعاف، ثم إن الوزارة وهي تعلن شعار "العلاج مجاناً للجميع" لا تقدم حتى اسبرين لمريض، أو سرنجة أو مغذية أو شاشة قطن أو مطهراً... فما فائدة هذه الوزارة؟!

أترك تعليقاً

التعليقات