فضول تعزي
 

محمد التعزي

محمد التعزي / لا ميديا -
من الصعب على فئة الأميين من أبناء الشعب اليمني أن يفهموا مصطلحات ذاعت في المجتمع اليمني في ستينيات القرن الماضي، الذي شهد اتقاد الانعتاق من غابر القرون الخوالي، وكان الهتاف الذي يملأ مجال ميدان الشهداء في التي كانت تسمى «تعز» مجرد صدى لإعجاب مطلق هو فرح غامر بالضيف (الحلم) جمال عبدالناصر، الذي كان «صوت العرب» (إذاعة) و«المصور»، و«آخر ساعة» و«الأخبار» و«أخبار اليوم» و«الجمهورية» وكلها مجلات وجرائد مصرية تنشر أفكاره الجديدة والتي تكرس شعارات «ناصر»، وأبرزها محو الأمية وأن يسترد الفلاح المصري أرضه من فم الإقطاع، ويصبح هذا الفلاح المصري أصيلاً لا أجيراً ويبدل الزمن للفقير الحافي من الباشا الذي يسخر خيرات «النيل» لا لأبنائه الحفاة العراة المستعبدين الأذلاء الجوعى المعدمين المحرومين، وإنما للباشوات الأثرياء أبناء الإقطاع! كان ضجيج الأكف والحناجر في ميدان الشهداء بدافع أول هو حب هذا «الجمال» الذي كان يرى أولاً وأخيراً أنه لا حياة للشعوب العربية إلا بالتحرر من الرجعية والاستعمار؛ الرجعية التي تحمل «العِقال» كمفتاح «سيميائي» للرجعية العربية، و«الكرافتة» كإشارة «سيميائية» دالة على الاستعمار القادم من وراء البحار.
كان المثقفون من اليمنيين يقومون بدور المايسترو، ينتظمون هذا التصفيق مكاءً و«تصدية» بعد كل عبارة «وصل أو فصل» تنطلق من هذه القامة الفارعة (جمال عبدالناصر)، إعجاباً بهذه العبقرية (الحلم)، الذي ما كان أحد يصدق أنه اليوم يطاول السماء حقيقة حية بين الجماهير التي حملت سيارته لعشرات الأمتار من باب الميدان حتى المنصة، وهي تهتف بأعلى مدى حناجرها المبحوحة: «ناصر كلنا بنحبك، ناصر ونعيش بجنبك، ناصر...». كانت عبارات الرجعية والاستعمار والحرية والشعوب والحرية تثير هذا «المكاء والتصدية»، الذي يكاد يخترق أجواز الفضاء إعجاباً بـ«جمال»، صوتاً وصورة، أكثر مما هو صادر عن فهم لهذه المصطلحات.
كان أصحاب الحواضر اليمنية، والذين يعدون بأصابع اليد، هم سماع «صوت العرب»، لامتلاكهم الراديو، يعلمون أن ناصر كان يعني بالرجعية العربية بني سعود، وأن الاستعمار يعني إنجلترا. كنا في المدارس الإعدادية والثانوية نفهم أن الإسلام هم الإخوان المسلمون، وغيرهم من الأحزاب كفار ومشركون، وأن الواحد مهما صلى وصام وحج البيت الحرام فلن يقبل منه دين، ويستدل محاضرنا في «المركز الإسلامي» الكائن في شارع التحرير بتعز بآية قرآنية كريمة وهي قوله تعالى: «مثل الذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماء...».
في المرحلة الثانوية علمنا بداية علم أن الدين هو أخطر ستار لإخفاء المقابح الحزبية و«الانتهازية». وعرفنا في مرحلة الجامعة ماذا كان يعني ناصر بالرجعية والاستعمار، وماذا يعني الراحل باذيب بالإمبريالية. والآن في مرحلة ما بعد الجامعة، علمنا ماذا يعني الزنداني وصعتر وياسين نعمان وعلي محسن والجنجويد وأردوغان والميسيري ورشاد العلي وعبدالله بن حسين الأحمر!

أترك تعليقاً

التعليقات